top of page

أن نتحيز إلى ثقافتنا ليس عيبًا!

من الخلاصات المهمة في التقرير الأول لمؤسسة الفكر العربي عن التنمية الثقافية في العالم العربي الصادر في 2010: أن التخصصات الأدبية والإنسانية بعمومها تعاني من التحيز الأكاديمي والمجتمعي ضدها لصالح التخصصات التطبيقية([1]) ؛ بل ويقول التقرير:


 إن ذلك التحيز كان من تجلياته وثماره: أن أضحى نخبة الطلبة (ذوو النِّسب العالية) تلتحق باختصاصاتِ العلوم البحتة والتطبيقية، في حين أنّ الباقي من السواد الأعظم يتجه نحو (الاختصاصات الأخرى)([2]

وهذا بالطبع له آثار غير محمودة العواقب على التخصصات الأدبية والإنسانية وهي قطب رحى الثقافة موئلها الأول، ماذا لو نفر طائفة من ذوي النسب العالية في المرحلة الثانوية يتخصصون في تخصصات السياحة التراثية، والثقافة الأدبية، والاقتصاد وعلوم الحضارة والعمران...الخ إننا حين يحصل ذلك نكون في خير عظيم!

صحيح أن قضيتنا هذه ذات صلة بتصنيف العلوم والمعارف، وذات صلة بمراتبها وترتيبها، وهي كلها اليوم من مهام الابستملوجيا ونظرية المعرفة، وبالتالي فهي مسألة فلسفية عليا.

 إن تاريخنا الثقافي لم يكن ليهمل فرعًا من العلوم أو صنفًا من أصناف المعرفة يفيد البشرية، لذا برع علماء ثقافتنا العربية في علوم المناظير والهندسة، والرياضيات والفلك، وسائر علوم الأكوان، وهم في الوقت نفسه يجعلون ثقافتهم المرجعية منطلقًا لا يتجاوزنه حتى قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله في رسالته الشهيرة في مراتب العلوم: "فأفضل العلوم ما أدَّى إلى الخلاص في دار الخلود، ووصل للفوز في دار البقاء"([3]).


هل العالم يتحيز ضد الثقافة لأجل التقنية؟

المفاجأة أن التحيّز للتخصصات التطبيقية يعاني منه الوضع الأكاديمي العالمي؛ لذا دعا المؤتمرون في ملتقى لتطوير التعليم في جامعة "هارفارد" بالتوصية بضرورة إنهاء العمل بالتصنيف القديم الذي يضع العلوم الإنسانية والاجتماعية في المرتبة الثانية بعد العلوم التطبيقية؛ وأثبت ذلك أيضا تقرير اليونسكو 2004 ومن بعده تقرير مؤسسة الفكر العربي في 2010حيث دعت بضرورة الاعتراف بأولوية العلوم الإنسانية والاجتماعية في الاقتصاد والسياسة والفكر والقيم والثقافة فهي الأنفع للمجتمع البشري بالدرجة الأولى([4]). 

لذلك كله فلا تتوقع أن مسألة توجيه الطلاب للتخصصات المختلفة مسألة ثانوية ولهذا سجل حولها المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، في كتابه "مسألة فلسطين" ملحظًا مهما حيث يقول: إن إحدى السياسات المتّبَعة من قِبَل العدو الصهيوني لإحكام سيطرته على الفلسطينيين هي في المجال التربوي والتعليمي. فسياسة السلطات تقوم على تشجيع الطلّاب الفلسطينيين على اختيار الاختصاصات العلمية من طب وهندسة وعلوم، وإبعادهم عن الاختصاصات الإنسانية والسياسية والأدبية والاجتماعية، لأن المقاومة والوعي بالظّلم لا يتشكّلان إلا عبر الحقول المعرفية الإنسانية والاجتماعية والسياسية والأدبية([5]).

 

التقدم صناعة ثقافية وليس صناعة تقنية

في كتابي من لم يكن مهندسًا فلا يدخل منزلي المنشور في 2008 نقلت عن الفيلسوف ويل دورانت الذي رفع عقيرته في معلمته مباهج الفلسفة قائلا: وثقافتنا اليوم سطحية، ومعرفتنا خطرة؛ لأننا أغنياء في الآلات فقراء في الأغراض"([6]). 

بل دعا غير واحد إلى عدم اعتبار التقنية معيارًا للتقدم منهم أليكسس كاريل والذي يقول: على البشرية أن تبحث عن معيار للتقدم غير التقنية([7]).! وما ذلك المعيار إلا الشأن الثقافي بالدرجة الأولى!

وكأن تلك الصرخات الغربية للبحث عن مستمسك آخر للتقدم ذو علاقة بقيم الإنسان وثقافته ومعانيه؛ كانت صرخة في واد! إذ بقي الغرب في تقنيته حتى انزلقت قدمه في وحل الشذوذ والتحول الجنسي إلى دركات يعادي فيها الإنسان إنسانيته وفطرته التي فطره الله عليها أول مرة! 

 يظن بعضنا أن التقدم شأن صناعي يعتمد على العلوم البحتة والتطبيقية والتقنية وحدها؛ لكن نظرة أوسع أفقا تكشف أن الفارق الجوهري بين الدول هو الثقافة بالدرجة الأولى ثم التقدم الصناعي، وحين تكون الصناعة والتقنية لا تسبقها ترسانة من الأنظمة الثقافية والتعليمية والإدارية والقانونية والإعلامية والقيمية، وما إليها لا تحقق إلى تقدمًا مدنيًا غير عميق حضاريًا.

ويذكرني هذا بالتقرير الذي رفعه السفير الأمريكي في اليابان وهو يقول: إن خلف مصانع اليابان ثقافة ونظام اجتماعي هو المحرك لها! ([8]). وكأنه يقول لبلده إن التنافس مع اليابان تنافس ثقافي اجتماعي بالدرجة الأولى قبل أن يكون تنافسًا صناعيًا!

ومن هنا نتفاءل بالنهضة الكبرى التي غدونا نراها في المملكة العربية السعودية في كافة مناحي الصناعات المتقدمة من البتروكيماويات إلى الصناعات التقنية في الذكاء الصناعي والأمن السيبراني، تجد في خلفيتها الداعمة لها البناء الثقافي المعبر عن هوية الذات والوقود الدافع للعطاء من الفرد والمجتمع!

 


 

لابد لنا من صناعة علوم نمتحها من ثقافتنا!

 والتخصصات المختلفة بما تحتويه من علوم ومعارف تكون منطلقا حضاريًا لبيئاتها وموئلها الذي متحت منه بالدرجة الأولى، وفي هذا يفيدنا علماء التحيز -إن صح التعبير- بأنّ الإنسان متحيز بدرجة ما لثقافته مهما حاول الحياد! لذا كانت عمليات التصنيف للعلوم متباينة لتباين الفلسفات التي صدرت عنها. وهذا ما حمل "إيريك دي جيرولير Eric de Grolier" بالجزم بعدم وجود تصنيف في أي مجال يمكن أن يخلو من القيم([9]) ، والعَالِم -فضلا عن غيره- مهما حاول "لا يستطيع التجرد من أهوائه وميوله ومصالحه، وهو ينظر- في الغالب - إلى موضوعه المتصل بالإنسان من خلال عقيدته وثقافته وتقاليد وطنه، وغيرها من العوامل المؤثرة في نزاهته"([10]).

وهذا رائد علم التحيز عبد الوهاب المسيري يقول محفزًا للثقافة العربية لتنتج علومها وفق ثقافتها العربية ومنتقدًا النقل غير الواعي عن الآخر فيقول: "لاحظت أن العرب المحدثين لم يضعوا أسس أي علوم على الإطلاق فإذا قالوا في الغرب "علم النفس التنموي "قلنا نحن أيضا "علم النفس التنموي" وإذا قالوا "علم النفس الصناعي" رددنا معهم "علم النفس الصناعي" وإذا قالوا "علم النفس التفكيكي" سارعنا بقول "علم النفس التفكيكي" أي أننا نردد ما يقولون ونتبنى ما يستحدثون من علوم أما أن نؤسس نحن علومًا جديدة كي تتعامل مع الإشكاليات الخاصة بنا فهذا ما لم يحدث في تاريخ الحضارة العربية الحديثة"([11])

في الوقت الذي يخبرنا عالم طبيعيات من كبار علماء السوفييت إذ ذاك بقوله: إن العلم الروسي ليس قسما من أقسام العلم العالمي. إنه قسم منفصل قائم بذاته يختلف عن سائر الأقسام كل الاختلاف. فإن سمة العلم السوفيتي الأساسية أنه قائم على فلسفة واضحة متميزة، إن التحقيقات العلمية لا تزال في حاجة إلى أساس، وإن أساس علومنا الطبيعية الفلسفة المادية التي قدمها "ماركس، وإنجلز ولينين، وستالين إننا نريد أن نخوض - وفي أيدينا هذه الفلسفة في معترك العلم الطبيعي العالمي ونصارع جميع التصورات الأجنبية التي تناهض فلسفتنا المادية والماركسية بكل حزم وقوة"([12])  

ويبقى السؤال قائمًا ماذا سيحصل حين نمتح علومنا من ثقافتنا؟

جواب ذلك: حينها ستكون تلك العلوم محققة لمقاصدنا وقريبة من واقعنا، ومتصلة بحياتنا الاجتماعية، ولصيقة بأوطاننا، وهذا ما حصل في أزمنة ماضية كما يحدثنا الخبير الابستمولوجي إدريس الجابري حيث يقول: على مدى عشرة قرون متتالية، أنتج المسلمون خلالها ما يقارب الخمسمائة علم([13]). 

 

اختصار المتميزين في التخصص التطبيقي

إن حاجتنا للعلوم التطبيقية والصناعية مهما عظمت؛ ليست هي كل حياتنا لذا سنبقى في حاجة وبحث ملح لمن يسد باقي الاحتياجات، وكيف نتصور أن اختصارنا لكل مقدراتنا البشرية وقوانا الذهنية والعبقرية يصح أن نختصرها في قالب واحد ؟!

ولن يعاب مجتمع من المجتمعات البشرية -عيبًا كبيرًا- لاستيراده بعض حاجياته المادية وأدواته الاستهلاكية من غيره. غير أن العيب كله؛ حين يستورد المجتمع قيمه التي بها ينهض، وروحه التي بها يعيش، وتاريخه الذي به يفاخر، وتربيته التي بها يخوض غمار الحياة.

 

ختامًا: بشرى تخليق المشهد الثقافي

حين توالت إصدارات تقارير المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية، وتولى إطلاق منظومة الهيئات الثقافية، غدت البيئة العلمية والثقافية أكثر ظهورًا في القدرة على التعبير على عمق التجربة الثقافية في البيئة المحلية، ومن ثم غدت قادرة على التحول إلى مرحلة الصناعة المعرفية ذات الطابع الابستمولوجي القادر على نقلها إلى مسارات أكاديمية تلون مستقبل الأجيال المعرفي حتى يتخصص الباحثون والممارسون والخبراء في الشؤون الثقافية المتعددة على نحو يشد إليه أفضل الكفاءات التي كانت تستأثر بها التخصصات التطبيقية كالطب والهندسة ونحوهما!

إن مختلف الصناعات الثقافية بكل فسيفسائها المزهرة الألوان في الواقع المحلي بدت اليوم في حالة تجعلنا نتفاءل برؤية كليات متخصصة في الشعر والأدب، وأخرى متخصصة في الهوية الثقافية والأزياء وكانت باكورة هذا الفأل الكلية الثقافية التي أطلقتها وزارة الثقافة وجامعة الملك سعود والتي وتضم مجموعة من الأقسام العلمية الثقافية، مثل: قسم التصميم المعني بتدريس علوم التصميم الجرافيكي، والأزياء، والمجوهرات، وقسم الفنون الأدائية الذي يقدم برامج دراسية في علوم المسرح، والسينما، وقسم الفنون البصرية الذي يركز على تدريس علوم الطباعة، والرسم، والنحت، والخط العربي([14])..


 


([1]) تقرير التنمية الثقافية الأول في العالم العربي، مؤسسة الفكر العربي،2010، من مطبوعات مؤسسة الفكر العربي ص (141).

([2]) المصدر السابق (135).

([3]) عباس، إحسان (1987م) رسائل ابن حزم، رسالة مراتب العلوم، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، لبنان (2/64).

([4]) تقرير التنمية الثقافية الأول في العالم العربي، مؤسسة الفكر العربي،2010، من مطبوعات مؤسسة الفكر العربي ص(146).

([6]) ديورانت، وليم جيمس، 2018مباهج الفلسفة، المركز القومي للترجمة، مصر القاهرة، ص32

([7]) كاريل، أليكسس، الإنسان ذلك المجهول، ترجمة شفيق أسعد فريد، مكتبة دار المعارف، بيروت لبنان، ص21

([8]) انظر: هيبة، زكريا، 2016، التربية اليابانية، البذور والجذور والثمار ثم الخريف، الدار العربية للعلوم، ناشرون، ص9.

([9]) المسيري، عبد الوهاب (1415هـ)، إشكالية التحيز: محور علم النفس، معهد الفكر الإسلامي العالمي، واشنطن، أمريكا (ص110).

([10]) الجندي، أنور، أخطاء المنهج الوافد، دار الكتاب اللبناني بيروت لبنان (6/16 ).

([11]) المسيري، عبد الوهاب إشكالية،(ص9).

([12]) الطارقي، عبد الله 2008، من لم يكن مهندسًا فلا يدخل منزلي، العالم العربي للنشر، دبي الإمارات، ص115

([13]) انظر: الجابري، إدريس، 2013، العلوم الإسلامية وتاريخ العلوم، مجلة الدليل، العدد الأول رجب 1434هـ-2013م، مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات ص(9).

Comments


bottom of page