إن وفاء الإنسان بالتكليف الذي لأجله خلق الله تعالى الإنس والجن، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ولأجله أقام سوق الجنة والنار أمر من الأهمية بمكان.
ولأهميته وخطورته وحساسيته يمكننا القول بأن مسألة بهذه الدرجة من الخطورة والأهمية والحساسية لا يمكن أن يدخل فيها الطفل فجأة بدون إعداد منطقي شامل لكافة الجوانب التي يحتاج أن يلبي فيها مقتضيات هذا التكليف وهذه المسؤولية العظيمة.
ولهذا يمكننا القول -أيضًا- بأن علماءنا اهتموا بمرحلة الطفولة وأنتجوا كل تلك النصوص التي سال بها مدادهم عبر القرون لأنها المرحلة التي تعد الإنسان لمهمته الأشرف، ومهمته الأعظم ومهمته التي هي سبب وجوده وخروجه للحياة!
قبل أن نبين رؤية الإمام الغزالي ومنهجيته في إعداد الطفل للمسؤولية والتكليف يمكننا تقريب القضية وتكييفها تربويًا من منظور تراثي من خلال الآتي:
أولاً: مسألة الإعداد للطفل من مميزات التربية الإسلامية:
إعداد الطفل للمسؤولية والتكليف مما تميزت به التربية الإسلامية لأن أهم مسؤولية هي التكليف وهو الأمر الأكثر وضوحًا وجوهرية في التراث الإسلامي لتعلق الأحكام الشرعية به وتأثيره على كافة حياة الإنسان المسلم، بل الدين كله هو التكليف ولهذا قال الطاهر بن عاشور: "وإذا قد كانت بين الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة، علم أن بلوغ الأشد هو العلة الكاملة لحكمة إخراج الطفل" ([1]).
وعليه فكل المراحل العمرية من الجنينية إلى بلوغ سن التكليف إلى استقرار البالغ في التكليف ببلوغ الأشد هي مراحل للتدرج بهذا المخلوق للوفاء بالمسؤولية والتكليف الذي لأجله أوجده الله تعالى. ولهذا نجد الغزالي في الإحياء يكرر الحديث عن مرحلتين من مراحل الطفولة لأنها الأقرب لسن المسؤولية والتكليف وهي التمييز والمراهقة لما فيهما من مقاربة البلوغ والدنو منه.
ثانيًا: المنطق العقلي يحتم وجود مرحلة الإعداد قبل التكليف:
بالمنطق العقلي لا يمكن أن يكون البلوغ زمنا لتحمل مسؤولية الأمانة التي حملها الإنسان ثم يدخل فيه الإنسان فجأة بغير تهيئة وإعداد وتدرج. وأحسب أن هذا التصور كان واضحًا جدا لدى علماء التربية الإسلامية وفي مقدمهم الإمام أبو حامد الغزالي.
وهذا ما جعلهم يتواطؤون على توجيهات تربوية وعبارة إرشادية للمربين والوالدين تحقق ذلك الإعداد لتلك المرحلة المهمة في منظور التربية الإسلامية.
ثالثًا: العلماء يجعلون الطفولة كلها مرحلة إعداد للتكليف:
تواطأ العلماء على ضرورة جعل الطفولة كلها سنًا لتعويد الطفل على ما يطلب منه بعد بلوغه سن المسؤولية والتكليف وهو الواجب المناط بالوالدين والمربين ومن أوائل من لفت إلى ذلك الإمام أبو حامد الغزالي كما سيأتي بيانه.
رابعًا: أمثلة من عبارات العلماء المفيدة بأهمية الإعداد للطفل
يمكننا التمثل على وضوح هذه الصورة عند العلماء بمسألتين:
الأولى: تصريحهم بألفاظ تفيد الإعداد للطفل
ومن ذلك تعبيرهم عن المسألة بعبارات مثل قولهم:
1. ليعتادها.
2. حتى تكون أيسر عليه بعد البلوغ.
3. ذلك للتدريب لا على سبيل الوجوب.
4. ليتمرن عليه، وللتمرين عليه
5. تمرين الصبيان على الطاعات
6. تعويدهم العبادات
7. ليكون أسهل عليه بعد البلوغ.
8. ليكون أقل نفورا منه.
9. على وجه التعليم.
10. ويكونوا على نشاط بذلك بعد البلوغ
ولهذا وجدنا تلك الألفاظ عند الغزالي -كما سنبينه -ووجدناها عند أبي بكر الرازي، والجصاص، وابن حجر والنووي وابن القيم وغيرهم، ومن الأمثلة الواضحة في ذلك ما يلي:
قال أبو بكر الرازي: "إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورا منه، وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يمنع منه في الصغر لصعب عليه الامتناع بعد الكبر ([2])
وقال الصابوني في روائع البيان تفسير آيات الأحكام: من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح - وإن لم يكن من أهل التكليف - على وجه التعليم، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات ([3])
وقال الحافظ ابن حجر: "الجمهور على أنه لا يجب على من دون البلوغ. واستحب جماعة من السلف - منهم ابن سيرين والزهري - وقال به الشافعي: أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه"([4])
وقال النووي - رحمه الله -: "وفي هذا تمرين الصبيان على الطاعات، وتعويدهم العبادات."([5])
وقال البخاري - رحمه الله -: (باب صوم الصبيان). قال عمر رضي الله عنه لنشوان في رمضان: "ويلك وصبياننا صيام، فضربه". يقول العيني - رحمه الله -: "ومطابقته للترجمة في قوله: "وصبياننا صيام"، وإنما كانوا يصومون لأجل التمرين ليتعودوا بذلك، ويكونوا على نشاط بذلك بعد البلوغ" ([6]).
وقال ابن القيم - رحمه الله – فيما ينبغي على ولي الطفل أن يعوده عليه: "ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج: الاعتناء بأمر خُلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره من: حرد، وغضب، ولجاج، وعجلة، وخفة مع هواه، وطيش وحدة؛ فيصعب عليه عند كبره تلافي ذلك.
وكذلك يجب أن يجنّب الصبي - إذا عقل - مجالس اللهو الباطل والغناء وسماع الفحش، والبدع ومنطق السوء؛ فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر، وعزَّ على وليه استنقاذُه منه؛ فتغيير العوائد من أصعب الأمور، يحتاج صاحبه إلى استجداء طبيعة ثانية. والخروج عن حكم الطبيعة عسر جدًا.. وينبغي أن يجنّب الصبي الأخذ من غيره غاية التجنيب، فإنه متى اعتاده صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يعطي. ويعوّده البذل والإعطاء.
وإذا أراد الولي أن يعطي شيئًا أعطاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء.. وينبغي أنْ يجنبه الكذب والخيانة كما يجنبه السم الناقع؛ فإنه متى سهل له سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة، وحرمه كل خير.
ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة؛ بل يأخذه بأضدادها، ولا يريحه إلا بما يجم نفسه وبدنه للشغل، فإن الكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة ندم، وللجد والتعب عواقب حميدة؛ إما في الدنيا، وإما في العقبى. فأروح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس؛ فالسيادة في الدنيا، والسعادة في العقبى لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب".
بل ويسعى إلى أن يجنبه فضول الطعام، والكلام، والمنام، ومخالطة الناس؛ فإن الخسارة في هذه الفضلات، وهي تفوّت على العبد خير دنياه وآخرته ([7]).
الثانية: التطبيقات العملية للعلماء في مصنفاتهم
وأهم تطبيق علمي عملي صريح في هذه التهيئة وجدناه عند الإمام محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- في صحيحه حيث جمع مواقف عملية للنبي صلى الله عليه وسلم لتدريب الصبيان على جميع الصلوات النوافل في موضع واحد في صحيحه، وشرحها العلماء بنفس التوجه النفسي والتربوي الذي يشير إليه الغزالي وهو التعويد على الطاعة والمسؤولية التي ستجب عليه وشيكًا..
ألخصها مع تعليق وجيز لشراح صحيح البخاري ليتضح الشاهد من كل نص وقد:
حيث أورد البخاري - رحمه الله - سبعة أحاديث ([8]) في تدريب الصبي على مسؤولية دينية وعبادة:
الحديث الأول: تدريب الصبيان على صلاة الجنازة
صلاة الصبي على الجنازة: حديث ابن عباس رضي الله عنه قال الشعبي "أخبرَني من مرّ مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فأمَّهم وصلوا عليه فقال: يا ابن عمر، ومن حدّثك فقال: ابن عباس".
قال العيني: "مطابقته للترجمة؛ من حيث إن ابن عباس كان وقت ما صلى معهم صغيرًا، لأنه كان في زمن النبي دون البلوغ؛ لأنه شهد حجة الوداع وقد قارب الاحتلام" ([9]).
الحديث الثاني: تدريب الصبيان على صلاة الجمعة
صلاة الصبي الجمعة بلا غسل: حديث أبي سعيد الخدري عن النبي قال: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم".
وهو في بيان وجوب الغسل على البالغ، وأن الصغير - ولو حضر الجمعة - لا يجب عليه غسل؛ وهو ظاهر.
الحديث الثالث: تدريب الصبي على قيام الليل
صلاة الصبي بالليل: حديث ابن عباس رضي الله عنه: في مبيته عند خالته ميمونة وفيه.. "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شنٍّ معلّقٍ وضوءًا خفيفًا، ثم قام يصلي، فقمت فتوضأت نحوًا مما توضأ، ثم جئت عن يساره فحوّلني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله...."الحديث.
قال الحافظ: إن الشاهد منه: وضوؤه "وصلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره له على ذلك؛ بأن حوّله فجعله في يمينه." ([10]) على ما فيه من تعليم الصبي الوضوء من ناحية عملية بالاقتداء.
قال ابن القيم - رحمه الله – فيما ينبغي على ولي الطفل أن يعوده عليه: "ويعوّده الانتباه آخر الليل؛ فإنه وقت قسم الغنائم، وتفريق الجوائز؛ فمستقل، ومستكثر، ومحروم. فمتى اعتاد ذلك صغيرًا سهُل عليه كبيرًا" ([11]).
الحديث الرابع: تدريب الصبي على صلاة التطوع
موقف الصبي كالرجل في صف الصلاة خلف الإمام ثم النساء: حديث أنس بن مالك في دعوة جدته مليكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته وفيه: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واليتيم معي، والعجوز وراءنا؛ فصلى بنا ركعتين".
قال الحافظ: ومطابقته لترجمته: من جهة أن اليتم دال على الصبا؛ إذ لا يتم بعد احتلام. وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك([12]).
الحديث الخامس: تدريب الصبي على الحج وعلى الصلاة في النسك
دخول الصبي في صف الرجال في الصلاة: حديث ابن عباس رضي الله عنه في إقباله على أتانٍ - والنبي صلى الله عليه وسلم بمنى - وفيه: "وأنا يومئذ ناهزت الاحتلام؛ فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف؛ فلم ينكر ذلك عليَّ أحد".
قال الحافظ: "وفيه: دخولُه، وتقريرُه على ذلك. وفيه: أنّه كان ناهز الاحتلام: أي قاربه" ([13]).
الحديث السادس:
حضور الصبيان الصلاة في المساجد: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "أعتم النبي صلى الله عليه وسلم في العشاء حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم....." الحديث.
قال الحافظ: "قال ابن رشيد: فهم منه البخاري أن النساء والصبيان الذين ناموا كانوا حضورًا في المسجد." ([14]) وهو كذلك؛ فلم يكن حضور الصبيان والنساء المساجد بمستغرب، بل هو أمر مُعتاد في ذلك الوقت.
الحديث السابع: تدريب الصبي على صلاة العيد
خروج الصبيان لصلاة العيدين: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في حضوره لصلاة العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، ودخوله على النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وفيه: (فقال له رجل: شهدتَ الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدتُه -يعني من صِغَره-)
قال الحافظ: "وقد صرح فيه بأنه كان صغيرًا. وترجم له في العيدين:(باب خروج الصبيان إلى المصلى) ([15]).
وبهذا نفهم أن اتجاه الإمام الغزالي في عباراته التي يكرر فيها تعويد الصبي على جملة من القضايا والمسائل إنما هو في ذات النسق الذي كان هو من أوائل من أشار إليه قبل ابن القيم، والنووي، وابن حجر، وغيرهم.
وهذه الأسبقية لأبي حامد هي التي جعلتنا ننسب المسألة إليه ونبينها من خلال كتابه المهم إحياء علوم الدين.
([1]) التحرير والتنوير لابن عاشور 17/146. ([2]) تفسير الرازي (24/ 418) ([3]) روائع البيان تفسير آيات الأحكام (2/ 215) ([4]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (1407هـ)، دار الريان (4/236). ([5]) شرح صحيح مسلم، ليحيى بن شرف الدين النووي، (1392هـ) دار الفكر، بيروت لبنان (4/262). ([6]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني (1348هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان (11/69). ([7]) انظر في كل ما سبق في هذا المبحث لابن قيم الجوزية (1408هـ) تحفة المودود بأحكام المولود، دار الفكر بيروت لبنان (209- وما بعدها) ([8]) انظر صحيح البخاري (3/366) من الحديث رقم (810) حتى الحديث رقم (816). ([9]) العيني، بدر الدين العيني (1348هـ) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان (8/120). ([10]) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (2/401). ([11]) تحفة المودود بأحكام المولود، محمد بن أبي بكر ابن القيم، (1408هـ) دار الفكر بيروت لبنان (210). ([12]) فتح الباري لابن حجر العسقلاني، (2/401). ([13]) المصدر السابق ([14]) المصدر السابق ([15]) المصدر السابق
コメント