اسمح لي أن أشاركك هذا المعنى القرآني النفسي الاجتماعي التربوي في ذات الوقت والذي يفاجئك وأنت تقرأ كلمات "الاذن، والاستئذان" في القرآن الكريم.. لنسائل أنفسنا عن حجم حضوره في مشاريعنا التربوية والاجتماعية الخاصة في بيوتنا والعامة في مؤسساتنا!
الله تعالى صاحب الحق في كل شيء، لهذا لم يترك التصرف في ملكه بدون إذنِه!.. فهل سألنا أنفسنا هل بعض ما نخوض فيه مأذون لنا الخوض فيه أو هو مما يدخل في قوله تعالى: {مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
والحق أن كل من يملك شيئًا يتوقع أن لا يتحرك شيء في ملكه بدون إذنِه لهذا قال فرعون {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123]
ولله كم قرّعت الآيات أولئك الذين يتخوضون فيما لم يحصلوا فيه على الاذن حتى قيل لهم {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. وملكه -سبحانه- للدنيا والآخرة سواء، لهذا لا يُشفع لأحد في الآخرة إلا من بعد إذنِه {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإذنِه} [البقرة: 255]!
بل حتى الملائكة بما فيهم جبريل عليه السلام لا يتكلمون بدون إذنه {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [النبأ: 38]
وهل تتصور أن الذي أخبرنا أن المساجد التي هي بيوته هو من أعطى الإذن بأن يذكر اسمه فيها يمكن أن يترك باقي تفاصيل حياتك لشخصك دون اذن منه وهو يملكك وجوارحك {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، وقبل هذا.. هل تذكره وتعبده بمحض إرادتك أو أن ذلك من بعد إذنِه وفي الحديث الصحيح "إذا استيقظ أحدُكم فلْيَقُلْ: الحمدُ للهِ الذي ردَّ علَيَّ روحي، وعافاني في جسدي ، وأذِنَ لي بذكْرِهِ" وتأمل كيف طلب منك أن تتذكر هذا الاذن مع أول لحظات يومك.. فهل يليق أن تتخوض في ملكه بغير إذنِه في سحابة نهارك؟
بل لولا أن الله تعالى أذِن بهدايتك لما اهتديت لصواب، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذنِه} [البقرة: 213] فحتى رَشَدك وصوابك حصل لك من بعد إذنِه!
بل هدايتك الكبرى للإسلام كلِّه جاءت بعد إذنِه {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإذنِه} [المائدة: 15، 16].
وكم نحن في حاجة لنعرف المأذون لنا فيه من غير المأذون لنا فيه، و ربما لأجل أن نتربى على هذا المعنى شرع أن يكون هذا الإذن والاستئذان من أول المعاني التي يؤخذ بها الناشئة والخدم، وهذا النظام ما وضعتنا فيه سورة النور لتبدأ الطفولة بأول قيمة وخلق؛ وهو طلب الاذن، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]، وكأن الآيات تتابع معنا عبر مراحل عمر الإنسان فتأتينا بجواب سؤال ماذا لو بلغ هؤلاء الأطفال؟ ولم يطل المكث كثيرًا حتى تقول الآية التالية فورا {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59].
الاستئذان نظام نفسي واجتماعي، نظام ذوقي غاية الرقي، لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا زار أحدكم أخاه فجلس عنده فلا يقومن حتى يستأذنه" وكيف تتحرك في ملك أخيك وسلطانه بدون إذنِه؟! والنصوص تفصل آداب الاستئذان وعدده وأزمنته إلى تفصيل موضع وقوف المستأذن حتى تأتينا بأين ينبغي أن يقف بصره قبل الاستئذان، فحين نقول عنه نظام فنحن نعني ذلك!
ولحساسية الاستئذان جاء تشريعه بهذا الزخم حتى تعلم الآيات الصحابة رضوان عليهم وهم في غمرة حبهم الغامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينسيهم ذلك الحب والقرب مسألة الاستئذان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]
الاستئذان تشريع له مقاصده التربوية كحفظ العورات، وترقية الذوق، وحفظ حقوق الآخرين، وإدخال الأنس على المستأذن عليه وغير ذلك
ألا نتوقع أن تربيتنا لذوق أطفالنا في الاستئذان في البيوت وخارجها إلا ليرتقي ذوقهم في ملك الله تعالى سبحانه؟!
فهل تعلم وتعليم طلب الإذن، ومسألة الاستئذان فريضة لم تحظى بعنايتنا التربوية كما ينبغي، إن لم نفعل فا لنعلم أن المسألة ليست تربية للطفولة، وأدب عند البلوغ بل المسألة أعمق مما نتصور، إذ ارتفع مزاج النص بالإذن والاستئذان حتى جعله الله تعالى معيارًا للإيمان فقال لنبيه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62].
صحيح أن الآيات تعلمنا -كذلك- أنّ طلب الاذن عند الطوارئ وحضور الواجب وفعل الخير؛ صلف ونفاق ورياء ورعونة؛ لهذا لم تفوته الآيات {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 93].
إنها نظرية نفسية وتربوية واجتماعية عميقة الجذور، ونظام أخلاقي متين، يصلك بمعرفة الله تعالى، ويبدأ مع بواكير الطفولة، ويصحب الشاب البالغ، حتى يغدو معيارًا صادقًا لإيماننا!
Comments