لما كان الزواج شأنًا كونيًّا وبه بدأت قصة البشرية، وحاضرًا بهذا العُمق والغزارة، اعتَنَت به ثقافتنا العربية اعتناءً بالغًا، كعادتها في المعاني العظيمة التي تَهُمُّ الإنسانية؛ إذ هي لغة النص الخالد الحافظ للمعاني التي تحتاجها البشرية في مستقبلها. ولقد وجدنا -على نحو لافت- في تناول ثقافتنا العربية لهذه العلاقة الإنسانية غزارةً لا نتصوَّر أن تُضاهيها غزارة في الثقافات الإنسانية الأخرى.
وقد وجد العلماء أن حضور مسألة الزواج في التراث العربي غزير جدًا، كما صَرَّحَ الثعالبي بذلك، حيث أفاد أن العرب وضعت للزواج مائة اسم!
بل يُضيف ابن القطَّان أن العرب وضعت للزواج أضعاف ذلك بكثير، حيث يقول إنها بلغت ألف اسم!([1]).
هل ذلك لأن وعي الثقافة العربية مسكون بفكرة أن كثرة الأسماء تَنُمُّ عن شرف وعظمة المُسمَّى؟ ربما! وحُقَّ لشأنٍ انتظَمَ نظام خلق الكون أن يَحظَى بهذه الغزارة.
ومن قبيل المناسبة، أتذكر كلمة عبد الفتاح كيليطو: "إن العربي إذا أراد تخليد شيءٍ لعظمته، كتب فيه كتابًا". وهذا يشي بالضرورة بغزارة اللفظ وتكثيف المعاني وانفتاح الدلالات.
ثم لا ننسى أن اللفظ العربي حدثت له نقلة نوعية في بعض مفرداته، وإضافة نوعية في بعض معانيه التي تناولها القرآن الكريم. والمفاجأة السارة أن لفظ (الزواج) مفردة قرآنية بامتياز!
وأقل ما يعنيه هذا أن نص القرآن الكريم قفز بالزواج إلى فضاءات أرحب من التداول العربي المجرَّد، ولِمَ لا؟! وقد أصبح من كلمات الله تعالى التي كتب على الدنيا ألا تَمَسَّ لفظَها ومعناها بتبديل أو تغيير مهما فسد الزمان أو تشيطَنَ أهلُه!
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
جاء الزواج في القرآن الكريم في ثلاثة وثمانين موضعًا، ورد في خمسة منها بصيغة الفعل، ومن ذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وقوله تعالى: {كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: من الآية 54].
وجاء في سبعة وسبعين موضعًا بصيغة الاسم، كما في قوله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90].
وفي (الصحيحين) زُهاء مائة موضع، منها بصيغة الفعل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج"([2])، ومنها بصيغة الاسم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميِّتٍ فوق ثلاث، إلا على زوجٍ، أربعةَ أشهر وعشرًا"([3]).
وهذا يشي بالقوة الاصطلاحية التي يملكها هذا اللفظ المركزي في القرآن الكريم والحديث الشريف!
[1]() النجم الوهاج في شرح المنهاج (7/7).
[2]() رواه البخاري (7/3).
[3]() رواه مسلم (2/1123).
Comments