وضع الله تعالى في وحيه أصلاً عامًا بمثابة نمط تفكير أو قل نموذج إدراكي عميق ثابت لا يتغير في الوعي بالأشياء ألا وهو قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْر تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
وتأمل كيف نظم بين تعداد مخلوقاته في الكون كله وبين أمره ووحيه، وبهذا أصبحت كل مخلوقاته ومنها نفس الإنسان ينتظمها أنها (خلقه) وكلها يقابلها أنها خاضعة ومتحركة بـ(أمره) فلا يتحرك شيء في هذا الكون بغير امره وإذنه. إلا أن نفوس بني آدام شرفها الله من بين سائر تلك المخلوقات بمزايا عظيمة أهمها أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وسخر له الكون كل الكون ولكن ذلك (الخلق) كله إنما أكرم به بنو آدم فقط ليقوموا بحق (الأمر) الذي خلق الخلق كله به وله ومعه ولأجله. فتبارك الله أحسن الخالقين.
واشتراك النفس مع الكون في (الخلق) أكسبهما الاتحاد في الخضوع لذات القوانين الرئيسة والتي من أهمها، قانون الحركة الدائبة، لأن الجميع يسير إليه سبحانه ولا قرار له إلا إليه.
وتبع قانون الحركة الدائبة قانون التقدم والتأخر لأن المتحركات لابد وأن تخضع لإمكان أن يتقدم شيء منها على الاخر. ومن هنا خضعت لقانون التقدم والتأخر{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37].أما ما يتعلق بتفصيل هذا التقدم والتأخر ففي المباحث التالية:
أولاً: ما حقيقة التقدم والتأخر في حال النّفس الإنسانية
مدح الوحي للمتقدمين وذم المتأخرين يدعونا للبحث في حقيقة التقدم والتأخر
التقدم والتأخر عند أهل العربية:
قال الجوهري: وقدم بين يديه، أي تقدم. قال تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات: 1] ([1]).
وقال الكفوي: يقال : ( أقدم الرجل ) إذا صار إلى قدام([2])
وجاء في المصباح المنير: تقول العرب وضع ( قَدَمَهُ ) في الحرب إذا أقبل عليها و أخذ فيها و له في العلم (قَدَمٌ) أي سبق و أصل (القَدَمِ) ما قدمته قدامك .. إلى أن يقول: و (تَقَدّمْتُ) القوم سبقتهم و منه (مُقَدّمَةُ) الجيش للذين (يَتَقدّمُونَ) بالتثقيل اسم فاعل و (مُقَدِّمَةُ) الكتاب مثله([3])
وجاء في المعجم الوسيط: (أقدم) فلان تقدم وعلى العمل أسرع في إنجازه بدون توقف([4])
وقال المطرزي في المُغْرِب: (قدَّم) و (تقدَّم) بمعنىً ومنه : مُقدِّمة البيت. ومُقدِّمة الكتاب ... إلى أن يقول : مثله ِ قال الله جلَّ وعز : {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98]. ومنه (قادِمَة الرَّحْل) خلاف آخرِته و (قَدِم) البلَد : أتاه من باب لبِس ِ ومنه : رجل (يَقْدَم) بتجارة([5])
ويضع الأصل العام الذي يرجع إليه التقدم فارس العربية ابن فارس فيقول: (قدم) القاف والدال والميم أصل صحيح يدل على سبق([6]) .
ولهذا يقول فارس مفردات القرآن الكريم الراغب الاصفهاني : سبق : أصل السبق التقدم([7])وهو بهذا يجعل السبق والتقدم بمعنى. ويكرر الأصفهاني الإشارة للتقدم بمعنى السبق أيضًا فيقول: {قدم صدق عند ربهم} أي سابقة فضيلة ... وقوله : {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} قيل معناه لا تتقدموه وتحقيقه لا تسبقوه بالقول والحكم بل افعلوا ما يرسمه لكم([8])
فأصبح معنى التقدم السبق.
أما الجزء الثاني من قضيتنا بعد التقدم فهو المقابل له وهو التأخر:
جاء في المعجم الوسيط: (أخّر) تأخر والشيء جعله بعد موضعه والميعاد أجله (تأخر) عنه جاء بعده وتقهقر عنه ولم يصل إليه. (استأخر) تأخر (الآخر) مقابل الأول. ويقال جاءوا عن آخرهم... (الآخرة) مقابل الأولى، ودار الحياة بعد الموت ومن العين ما جاور الصدغ. ويقال حصل الشيء بآخره، وجاء الشيء بآخرة أخيرًا. (الأخر) الأخير والمتأخر عن الخير، والمؤخر المطروح (الأخر) ضد القدم يقال رجع أخرًا كما يقال ذهب قدمًا وشق ثوبه من أخر من خلف.
(المئخار) الكثير التأخر ومن الشجر ما يتأخر نضج ثمره إلى آخر الموسم (ج) مآخير... (المؤخرة) نهاية الشيء من الخلف ومؤخرة الجيش جزء من القوة يعين لحراسة الخطوط الخلفية تكون مهمته تأخير العدو حتى يتم للجيش تنظيم انسحابه([9])
ويقول فارس العربية ابن فارس (أخر) الهمزة والخاء والراء أصل واحد إليه ترجع فروعه، وهو خلاف التقدم، وهذا قياس أخذناه عن الخليل فإنه قال: الآخر نقيض المتقدم. والأخر نقيض القدم، تقول مضى قدما وتأخر أخرا.
وقال: وآخرة الرّحل وقادمته ومؤخر الرحل ومقدمه. قال: ولم يجئ مؤخر مخففة في شيء من كلامهم إلا في مؤخر العين ومقدم العين فقط. ومن هذا القياس بعتك بيعًا بأخرة أي نظرة، وما عرفته إلا بأخرة. قال الخليل: فعل الله بالأخر أي بالأبعد. وجئت في أخرياتهم وأخرى القوم. قال:
* أنا الذي ولدت في أخرى الإبل *
وابن دريد يقول: الآخر تالِ للأول. وهو قريب مما مضى ذكره، إلا أن قولنا قال آخر الرجلين وقال الآخر، هو لقول ابن دريد أشد ملاءمة وأحسن مطابقة. وأخر: جماعة أخرى([10]).
والأصل الذي أثبته ابن فارس في التأخر أنه يقابل المتقدم؛ هو ما أثبته فارس مفردات القرآن الراغب الاصفهاني حيث يقول: آخر : يقابل به الأول([11]). وهذا يبين أنّ مجرد عدم التقد هو في الحقيقة تأخر!!
وتردد منزلة النفس الإنسانية بين التقدم والتأخر، على وجه التلازم والتاقبل؛ فإن من لم يتقدم فهو في تأخر ولابد، وربما كانت صورة ذلك يمكن إدراكها في الأعيان؛ فهي في المعاني أولى ..ومن هذا التلازم العكسي حتى في المعاني تفسير العلماء للتقدم والتأخر في قوله تعالى {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37].يقول السمعاني رحمه الله: أي : يتقدم إلى الإيمان أو يتأخر عنه([12]). ويقول القرطبي: وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع ، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع([13]).
وقال ابن جزي : {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } [المدثر: 37]، التقديم عبارة عن تقديم سلوك طريق الهدى والتأخر ضده([14]).
وقال الزمخشري : والمراد بالتقدم والتأخر : السبق إلى الخير والتخلف عنه([15]).
ويجمع الإمام ابن القيم - في توجيه إيماني - تلك المعاني بقوله: (فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه، وان شغله بهوى أرواحه وبطالة تأخر، فالعبد لا يزال في التقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق البتة. قال تعالى {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } [المدثر: 37] ([16]).
والأصل مدح التقدم والسبق للمكرمات، والذم لعد التقدم والذي هو في الحقيقة تأخر... ولم يمدح التأخر إلا في مواضع ولها توجيه يُبقي المِدْحة للتقدم والسبق للخير ثابتًا باقيًا والذم للتخلف عن التقدم وهو التأخر. ومن ذلك ما يلي:
مدح الآخرة على الدنيا: كما في قوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى: 4] وهو مدح للمآل وليس مدحًا للنفس ذاتها فهي تستحق نعيم الآخرة إذا تقدمت إليها بالطاعة؛ بفعل المأمور وترك المحظور!
مدح من تأخر أجله وهو على طاعة: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رجلان من بلي حي من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيد الله فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد فتعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة وكذا وكذا ركعة صلاة سنة([17]). فهو مدح خاص لما فيه من الزيادة من فعل الطاعة والقربى، وفعل الطاعة من السبق فهو متأخر زمنًا لكنه سابق بعمله.
مدح الله تعالى لأمته مع أنها الآخرة: كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضى الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذى فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد) ([18]). والنص هنا لم يظهر فيه مدح التأخر بل هو مدح السبق فتأخرنا الزمني لم يمنع كوننا خير الأمم ونبينا خير الأنبياء وكتابنا خير الكتب. وهذه الخيرية سبق وتقدم.
مدح التأخر عن اقتراف المحرم الممنوع عنه كما مدح الله تعالى من تأخر عن شرب الماء في سورة البقرة {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، وهو مدح باعتبار ترك المعصية ولو كان طاعة لكان السبق هو الممدوح.
وذُمّ التقدّم في مواضع أقل من مدح التأخر ولها توجيه أيضًا، ومن ذلك:
ذم الله عز وجل التقديم بين يدي الله ورسوله: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]. والتقديم الممدوح هو خلاف هذا، لأن نصوص الوحي تحفز دائمًا للمسارعة في الطاعة، والتسابق إلى المغفرة، والتسابق إلى الجنات، وكل ذلك طلب تقدم وسبق إلى الخير بعد أن يأتي التوجيه من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا قبلهما!
ذم الذين يتقدمون رمضان بصيام يوم أو يومين: وهو من التقديم بين يدي الله ورسوله؛ فعن مسروق أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، في اليوم الذي يشك فيه من رمضان فقالت يا جارية خوصي له سويقًا فقال إنِّي صائمٌ فقالت تقدمت الشهر فقلت لا ولكنِّي صمت شعبان كلَّه، فوافق ذلك هذا اليوم، فقالت إنَّ ناسًا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه و سلم؛ فأنزل اللهُ عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] ([19])
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه([20])
ووردت التسوية بين التقدم والتأخر في مواضع أقل مما مضى ولها توجيه كذلك ومنها:
الاباحة في التقديم والتأخير في أعمال اليوم العاشر من ذي الحجة: عن عبد الله بن عمرو: (فما سئل عن شىء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج) ([21])
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال لاحرج([22])
وظاهر أنّ التسوية هنا لأجل رفع الحرج عن أمته، والأفضل الإتيان بالنسك بالصفة التي فعلها صلى الله عليه وسلم.
الإباحة في التعجل أو التأخر في النسك: كما قال تعالى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 203] وهو لبيان الإباحة التي يفهم منها التساوي، غير أن المتأخر يزيد على المتعجل في أعمال الحج؛ لذا فلو حُمِلَ على المدح فهو الأولى والله أعلم
ومن هنا يتحصل لنا المعاني التي تدور حولها دلالة التقدم والتأخر من خلال ما يلي:
· أولاً: الأصل في معنى التقدم هو السبق، والتأخر ضده.
· والأصل إرادة هذا المعنى بالتقدم والتأخر في اللغة والقرآن والسنة.
· ثانيًا: الأصل مدح التقدم وذم التأخر.
· ثالثًا: المواضع التي مدح فيها التأخر، كان ذلك لملاحظة معنى وسبب خاص، وكذلك في الإباحة أو في ذم التقدم.
ثانيًا: بم تتقدم النفس الإنسانية وبم تتأخر؟
أولاً: ما جاء في القرآن الكريم:
قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } [المدثر: 37].
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: فيه أربعة أقوال :
أحدها أن يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عن معصيته قاله ابن جريج
والثاني أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة قاله السدي
والثالث أن يتقدم في الخير أو يتأخر إلى الشر قاله يحيى بن سلام
والرابع أن يتقدم في الإيمان أو يتأخر عنه والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر([23])
وخلاصة ذلك: أن النفس تتقدم إلى تعالى حين تطيعه وتتأخر عنه حين تعصيه ولذا رغبها في التقدم وتوعدها في التأخر!
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] أي : لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإنَّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه([24]).
ونقل القرطبي رحمه الله أنّ سبب نزول الآية؛ ما رواه النسائي والترمذي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: "كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله عز وجل {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ([25]).
وها هو الماوردي رحمه الله تعالى يلخص أقوال المفسرين فيها وهي:
أحدها: أن المستقدمين الذين خلقوا، والمستأخرين الذين لم يخلقوا، قاله عكرمة
الثاني : المستقدمين الذين ماتوا، والمستأخرين الذين هم أحياء لم يموتوا ، قاله الضحاك .
الثالث : المستقدمين أول الخلق، والمستأخرين آخر الخلق، قاله الشعبي .
الرابع : المستقدمين أول الخلق ممن تقدم على أمة محمد ، والمستأخرين أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم )، قاله مجاهد .
الخامس : المستقدمين في الخير ، والمستأخرين في الشر ، قاله قتادة .
السادس : المستقدمين في صفوف الحرب ، والمستأخرين فيها ، قاله سعيد بن المسيب .
السابع : المستقدمين من قتل في الجهاد ، والمستأخرين من لم يقتل ، قاله القرظي .
الثامن : المستقدمين في صفوف الصلاة ، والمستأخرين فيها ([26]).
وخلاصة ذلك: أن التقدم والتأخر شأن قلبي قبل أن يكون سلوكًا عمليًا والله عليم بسرائر عباده في مقاصد التقدم والتأخر فلزم السير فيه بتقوى من الله والسير على هداه
قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] قال القرطبي: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:(يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ) من طاعة الله(وأخَّرَ) مما ضيع من حقّ الله تعالى... وعن قتادة: بما قَدّم من طاعته، وأخَّر من حقوق الله ([27]).
قال ابن الجوزي: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة: 13] فيه ستة أقوال:
أحدها بما قدم قبل موته وما سن من شيء فعمل به بعد موته قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم.
والثاني ينبأ بأول عمله وآخره قاله مجاهد
والثالث بما قدم من الشر وأخر من الخير قاله عكرمة
والرابع بما قدم من فرض وأخر من فرض قاله الضحاك
والخامس بما قدم من معصية وأخر من طاعة
والسادس بما قدم من أمواله وما خلف للورثة قاله زيد بن أسلم([28]).
وخلاصته: أنّ ما يقدم الإنسان أو يؤخره في كتاب عند الله تعالى لا يضيعه وهو تحضيض على فعل الخير والطاعة وإنذار من مغبة ترك الطاعة وفعل ضد الخير
ثانيً: ما جاء في السنة:
التقدم في التبكير إلى الصلاة: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى في أصحابه تأخرًا فقال لهم تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله([29])
التقدم بالتبكير لصلاة الجمعة على التحديد لما جاء عن أبي هريرة قال : بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة إذ دخل عثمان بن عفان فعرّض به عمر فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء. فقال عثمان يا أمير المؤمنين ما زدتُ حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت فقال عمر والوضوء أيضا ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل([30])
التقدم إلى الصفوف الأول وهو من لوازم التبكير للصلاة بالجملة فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار "([31])
التقدم بالتعجيل في الخروج للحج فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ أَرَاْدَ مِنْكُمَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ.
وعن الأَعْمَشِ ، قَالَ : كَانَ حَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَكَرِهَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمُ([32])
ثالثًا: ما أوجه الإعجاز النفسي في هذا التلازم بين التقدم والتأخر؟
الوجه الأول:بقاء النفس الإنسانية في تحفيز دائم لتلبية مقاصد التكليف الشرعي، وهو من الإعجاز التشريعي.
فالإنسان إذا علم بأنّ منزلته في إيمانه والتي تؤثر في منزلته في آخرتِه إذا لم يتقدم فيها فإنه يتأخر لا محالة، فيحمله ذلك على دوام الطاعة والتنامي فيها، وترك المعاصي والتجافي عنها طيلة حياته قدر المستطاع.
الوجه الثاني:الانسجام مع حركة الكون في التقدم والتأخر فليس شيء في الكون إلا وهو يتحرك بناموس وقانون صارم لا يعرف التخلف لأنه سنة الله تعالى في الكون والأنفس.
وكل تلك السنن تسير في سياق واحد لا يعرف التخلف أو التقهقر، لأن الله تعالى يرينا آياته في الأنفس كما يرينا آياته في الأكوان والأفلاك.. ولهذا قال الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] : (ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة، كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى. وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة، من حسن وقبيح وبين ذلك، وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله، وقوته، وحِيَله، وحذره أن يجوزها، ولا يتعداها([33])
وبهذا يكون الوحي مبينًا لسنن الله تعالى في الأكوان، وسننه في هذا الإنسان.. والتي منها هذه السنة الثابتة: أن الجميع في حركة لاتعرف التوقف إما تقدم أو تأخر حتى في معاني الإيمان ومراتب الدين.. فسبحان الله العظيم!
الوجه الثالث:التلازم بين التقدم والتأخر فيه تطابق مع زيادة الإيمان ونقصه بالجملة.. فإن التقدم بالطاعة أو التأخر بالمعصية مؤثر في إيمان المسلم لأنّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.. وأي تقدم أو تأخر أوضح من هذا؟
الوجه الرابع:تطابقه مع ميزان التقييم الشرعي في الترقي بين مراتب الدين من الإسلام إلى الإحسان.
فإن المتقدم إلى الله تعالى ممدوح.. والمتأخر عن أمره مذموم وبين تلك المنزلتين درجات.. وهي التي يتحرك فيها الإنسان بين تقدمه وتأخره وأنت تلاحظ كيف ربط الله تعالى تحصيل والعبد لمرتبة الولاية بحيث يكون الله وليه=بالعمل والسبق والتقدم بالإكثار من النوافل والقربات كما جاء في الحديث القدسي في صحيح البخاري (وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه) ([34]) .. والله أعلم
الوجه الخامس:اتساق التقدم النفسي بالعلو الذي يناسب مراد الله تعالى حتى حصول الولاية التي هي المنتهى للنفس في علاقتها بالله عز وجل.. ودنو التأخر ودركاته الكثيرة في صور البعد عن الله تعالى والتخلف عن ركب الهداة المهتدين. عياذً بالله عز وجل.
والله اعلم
الخاتمة:
إنّ هذا المعنى القرآني المعجز.. يقودنا إلى لسنة الاهية في حق النفس الإنسانية.. مادة تربوية نفسية أصيلة.. خليقة أن يعتنى بها في المجال النفسي والتربوي بدلاً من أن ننشغل بتكفف الآخر أن يمدنا بثقافة نفسية أصيلة تناسبنا!.
إنها مادة.. نفهم بها نفوسنا..ونقومها من خلالها.. وبالتالي نعالجها من خلالها كذلك.
وأي قضية نفسية وتربوية أهم من قرب المسلم من الله تعالى في تقدمه إليه.. وأي قضية نفسية أو تربوية أخطر من التأخر عن الله تعالى وعن مراده؟!
وأي بحث نفسي أهم من قضية تسلك بك طريق تحصيل ولاية الله عز وجل؟!
ومن هنا فإن مادة هذه السنة الإلهية:
· تهمنا في باب الإرشاد النفسي.
· وتهمنا في العلاج النفسي.
· وتهمنا في علم الشخصية.
وأكرر هنا اعتذاري ففي جمعكم من هو أولى بالتصدي لهذا المعنى القرآني المعجز ليحيط به من أطرافه.. والله أعلم وإسناد العلم له اسلم وأستغفر الله من كل خطأ وزلل.
([1]) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري - دار العلم للملايين(5/2007). ([2]) [كتاب الكليات ص: 159]. ([3])[المصباح المنير في غريب الشرح الكبير - ث 2/ 493]. ([4])[المعجم الوسيط 2/ 719]. ([5])[[المغرب في ترتيب المعرب - ث 2/ 161]. ([6])[معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 65]. ([7])[المفردات في غريب القرآن ص: 222]. ([8])[المفردات في غريب القرآن ص: 397]. ([9])[المعجم الوسيط 1/ 9]. ([10])[معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 70]. ([11])[المفردات في غريب القرآن ص: 13]. ([12])[تفسير السمعاني دار الوطن الرياض 6/ 98]. ([13])[تفسير القرطبي عالم الكتب 19/ 86]. ([14])[الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 4/ 655]. ([15])[التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي ص: 2508] ([16])[الفوائد لابن قيم الجوزية ص: 193]. ([17])[رواه أحمد (14/126) انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/ 89]. ([18])[الجامع الصحيح للإمام البخاري 1/ 436]. ([19])[المعجم الأوسط 3/ 134]. ([20])[صحيح مسلم 2/ 762] ([21])[الجامع الصحيح للإمام البخاري 1/ 81]. ([22])[صحيح مسلم 2/ 950]. ([23])[زاد المسير - ث 8/ 410]. ([24])[البحر المديد ـ ط دار الكتب العلمية 3/ 548] ([25])[تفسير القرطبي 10/ 19]. ([26])[تفسير الماوردى - النكت والعيون 3/ 156] ([27])[تفسير الطبري 24/ 62]. ([28])[زاد المسير - ث 8/ 420]. ([29])[صحيح مسلم 1/ 325] ([30])[صحيح مسلم 2/ 580] ([31]) [سنن أبي داود 1/ 238] وقال الألباني : صحيح ([32])[مصنف ابن أبي شيبة 3/ 634] ([33])[تفسير ابن كثير 7/ 187]. ([34])[الجامع الصحيح للإمام البخاري 8/ 64]
Comments