top of page

ثقافتنا أعمق من اعتنى بالطفولة بين الحضارات


 

تتبع الدكتور"بيتر" في كتابه الطفولة في التاريخ العالمي أمر الطفولة بين الحضارات وسائر الثقافات وحين وصل إلى التراث الإسلامي أقر بأن أرقى حقب التاريخ الإنساني عناية بالطفولة هو ما تمثل بالعناية بالطفولة مع بزوغ فجر الإسلام وبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم ([1]).


ولفظ الطفل من أهم الألفاظ التي تناولتها كافة الاتجاهات؛ لأنها أول ميدان بشري تتجه نحوه المؤسسات للتأثير على الإنسان أي نوع من التأثير.

يقول الأزهري في تهذيب اللغة: "الصبي يُدعى طفلاً حين يسقط من أمه إلى أن يحتلم"[2]. قال تعالى {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]، ثم لم تجعل الآيات بين الطفولة والشباب فاصلا قال تعالى {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59]. وهذا ما حمل الإمام الطحاوي في مشكل الآثار إلى قوله، "ولا شيء نعلمه يكون تاليا للطفولية غير الشباب" وورود لفظ الطفل في القرآن والحديث حمل العلماء المسلمين على العناية بهذه الفئة العمرية.


عناية العلماء المسلمين بالطفولة

     لقد شعر العلماء عبر القرون بخطورة الاهتمام بشأن الطفولة وآدابها وقيم تربيتها وتنشئتها وأحكامها ومقاصدها وقوانينها وحقوقها وصحتها وأمراضها وهذا ما حمل العلماء إلى الكتابة في آداب المعلمين والمتعلمين مبكرًا فمنذ القرن الثاني الهجري ظهر أول كتاب وهو كتاب العالم والمتعلم المنسوب للإمام أبي حنيفة النعمان (ت:199هـ). ثم تلاه ما كتبه سحنون المالكي في القرن الثالث وهو المولود بالقيروان مطلع القرن الثالث الهجري (202هـ) وكتابه آداب المعلمين من أشهر ما زخرت به المكتبة الإسلامية وتنوعت طبعاته وكثر تداوله.


      وظهر في مطلع القرن الرابع الإمام الرازي (ت: 313ه) بكتابه المتفرد تحت عنوان تدبير الصبيان هي رسالة في أمراض الأطفال والعناية بهم، وهكذا حتى كان كتاب القابسي الشهير كذلك والذي حمل عنوان الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين، وأحكام المعلمين والمتعلمين؛ والقابسي، من أعيان القرن الرابع وإن كانت وفاته في مطلع القرن الخامس الهجري (ت: 403هـ)، وفي القرن الخامس طالعنا أبوحامد الغزالي بكتابين مهمين هما: منهاج التعلم، وكتاب أيها الولد وهو متوفى مطلع القرن السادس(ت:505ه) بالإضافة إلى معلمته التي اعتنت بالطفولة كذلك أعني إحياء علوم الدين.


        وفي القرن السادس طالعنا برهان الإسلام الزرنوجي (ت:591) بكتاب تعليم المتعلم طريق التعلم، وفي القرن السابع وجدنا عناية خاصة للإمام النووي (ت:676)عبر كتابه التبيان في آداب حملة القرآن، وفي مقدمة كتابه المجموع شرح المهذب، للإمام النووي، وفي القرن الثامن يظهر واحد من أشهر كتب العناية بالمتعلمين وهو كتاب تذكرة السامع والمتكلم لبدر الدين ابن جماعة (ت:733هـ)، وفي نهاية القرن الثامن ومطلع القرن التاسع كان لدرة الزمان عبد الرحمن بن خلدون ( ت:808هـ)  قولته حول الطفولة والعناية بهم في معلمته الشهيرة المقدمة، وفي مطلع القرن العاشر الهجري نقف على كتاب جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرضه للمعلمين وآباء الصبيان لأحمد بن جمعة المغراوي متوفى سنة 920هـ، وفي رأس  القرن الحادي عشر الهجري وجدنا كتاب شرح تعليم المتعلم لإبراهيم بن إسماعيل(ت:1000هـ) وهكذا لم يخل قرن من قرون الأمة الإسلامية من عناية بالطفولة وآداب تعليمها، وكان من أواخر مصنفات المعاصرين ما كتب العلامة عبد الرحمن بن سعدي في القرن الماضي (ت:1376هـ).


     ولو ذهبنا لاستقصاء المباحث غير المستقلة والتي سطرها العلماء في كتب الفقه عن أحكام الطفولة ومقاصد الشرعية في تربيتها لطال بنا المقام. وأكتفي بالإشارة إلى مسألة حق الطفل في النسب كمقصد شرعي تربوي بامتياز حيث يذكر الإمام الآمدي أن غاية هذا المقصد إنما هو العناية التربوية بالطفل وتوفير الرعاية والرفاه له حيث يقول: (فلأنَّ حفظ النسب إنما كان مقصودا لأجل حفظ الولد حتى لا يبقى ضائعا لا مُربي له, فلم يكن مطلوبا لعينه وذاته بل لأجل بقاء النفس مرفهة منعمة حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات) ([3]).

 

العناية بالطفولة عبر الثقافات:

تجربة البشرية على مر القرون ومر الدهور تعكس اهتماما بالغًا بالطفولة، بل إن الدراسات المعاصرة تنيط التقدم الثقافي والحضاري لكل أمة بدرجة العناية بالطفولة والاهتمام بها.

ولهذا لم يجد الباحثون بدا من النظر إلى تقدم دولة مثل: اليابان، إلا أن السبب الرئيس في ذلك هو عناية اليابان بالطفولة والتربية الموجهة إليها، حتى صرح السفير الأمريكي في اليابان بأن تقدم مصانع اليابان ليس نتاج إدارة فقط، بل هو نتاج تربية[4].

وحين تتبع المؤرخ الشهير الدكتور "بيتر ستيرنز" تاريخ الطفولة عبر الحضارات، كشف عن اهتمام بالغ بها لم يخل منه قرن من قرون البشرية، على تنوع اتجاهاتها واختلاف حضاراتها، ولهذا وقف على عدد من المشتركات بين سائر الثقافات، سواء كانت مشتركات ذات طابع إيجابي، مثل: اشتراكهم في قمط المواليد، أو اشتراك سلبي، مثل: انتشار قضية (وأد البنات وتفضيل الذكور)، فكل ذلك مما لم تخل منه حضارة بشرية على مر التاريخ.

و "بيتر": انطلق في بحثه من مفتاح مهم، وهو أن الطفولة هي مفتاح فريد أصلا للتجربة البشرية الأوسع نطاقا من الماضي التاريخي إلى الحاضر العالمي.

   فزمن الرعي، والزمن الزراعي، والزمن الصناعي الحديث، كلها تشترك في اهتمامها البالغ بالطفولة، وكافة الاتجاهات والديانات الكنفوشية واليهودية والنصرانية والإسلام تشترك في عنايتها بالطفولة، غير أن الدكتور "بيتر" -كما أسلفنا- يقر بأن أرقى الحضارات في العناية بالطفولة هي الحضارة الإسلامية([5]).




[1]. انظر: الطفولة في التاريخ العالمي، بيتر ستيرنز، ترجمة: وفيق فائق كريشات، المجلس الوطني للثقافة والفنون، ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، 2015، ص9.

[2]. تهذيب اللغة للأزهري، 4/406.

([3])  الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/276).

[4]. انظر: التربية اليابانية، البذور والجذور والثمار ثم الخريف، لزكريا هيبة، الدار العربية للعلوم، ناشرون، 2016، ص9.[5]. انظر: الطفولة في التاريخ العالمي، بيتر ستيرنز، ترجمة: وفيق فائق كريشات، المجلس الوطني للثقافة والفنون، ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، 2015، ص9.

Comentários


bottom of page