top of page

ثقافة الإحياء علماؤها لا ينتحرون!

ثقافتنا العربية الإسلامية ثقافة إحياء، ولهذا يبقى علماؤنا في الاشتغال بالعلم وتعليم الناس وتأليف الكتب ونشر الخير والأمل والإبداع والاختراع ونفع النّاس وعلاجهم وتيسير حياتهم إلى آخر رمق.

ولا غرو فهم ينتمون إلى ثقافة إحياء يعلمنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحيا بتفاؤل فتلك هي معاقد السعادة الحقة، بل إن نبينا يعلمنا أن نفعل ذلك إلى آخر رمق في الحياة، وليس إلى آخر رمق في آجالنا فحسب! ففي الحديث (إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها) ([1]) أترى ثقافة تمدك بمثل هذا التفاؤل وفعل الخير يمكن لعلمائها أن يتركوا العلم والبحث والتعليم برهة وهم قادرون؟

 وما أكثر ما تدركهم المنيّة وهم مشتغلون بالعلم والتجريب، والاختراع والتعليم، يفعلون ذلك بتفان منقطع النظير، مع شظف العيش وقلة ذات اليد، والفقر المدقع، ومع ذلك ما كان لأي لون من الألم، أن يحملهم على ترك القلم! وهذه كتب التراجم خير شاهد، وخير دليل قائم.

 تعال معي ننظر كيف كانت حياتهم مع العلم، إلى حين المنية، وشعارهم مقولة الإمام أحمد بن حنبل: "مع المحبرة إلى المقبرة" ([2])، ومقولة ابن جرير الطبري: قبل وفاته بساعة: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى يموت ([3])

ينقل لنا ابن خلكان في وفيات الأعيان أن الخليل بن أحمد الفراهيدي كان سبب موته أنه قال: أريد أن أقرب نوعًا من الحساب تمضي به الجارية إلى البياع فلا يمكنه ظلمها، ودخل المسجد وهو يُعْمل فكره في ذلك، فصدمته ساريةٌ وهو غافل عنها بفكره، فانقلب على ظهره، وقيل: بل كان يقطّع بحرًا من العروض حتى اصدم بالسارية... فكانت سبب موته وذلك سنة170ه([4]) 

ونقل الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج -صاحب الصحيح- أنَّه حضر مجلسًا للمذاكرة فسئل عن حديثٍ فلم يعرفه، فانصرف إلى منزلِه، فأوقد السراجَ وقال لأهله: لا يدخُلْ أحدٌ الليلة عليَّ، وقد أُهدِيَت له سلةٌ مِن تمرٍ، فهي عنده يأكلُ تمرةً ويكشِفُ عن حديث ثم يأكُلُ أخرى ويكشِفُ عن آخر، فلم يزَلْ ذلك دأبَه حتى أصبح وقد أكل تلك السلَّة وهو لا يشعُرُ، فحصل له بسبب ذلك ثقلٌ ومرَضٌ، حتى كانت وفاته سنة 216ه([5])

ويطالعنا السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة أبي طاهر السِّلفي صاحب معجم السفر، والذي لم يزل يُقرأ عليه الحديث إلى أن غربت الشّمس من ليلة وفاته، قال أبو شامة سمعت الإمام علم الدين السخاوي يقول سمعت أبا طاهر السِّلفي يومًا ينشد لنفسه شعرًا قاله قديمًا وهو:


أنا من أهل الحديث ... وهم خير فئة

جزت تسعين وأرجو ... أن أجوزن المائة


فقيل له قد حقق الله رجاءه فعلمتُ أنه قد جاوز المائة وذلك في سنة 572هـ ([6]) 

ونقل عن ابراهيم بن الجراح التميمي مولاهم -تلميذ أبي يوسف وآخر من روى عنه-  قال:  أتيته أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم! أيهما أفضل في رمي الجمار، أن يرميها الرجل راجلاً أو راكبًا؟ فقلت: راكبًا. فقال: أخطأت!. قلت: ماشيًا. قال: أخطأت!. قلت: قل فيها -يرضى الله عنك، قال: أما ما يوقف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه راجلا، وأما ما كان لا يوقف عنده، فالأفضل أن يرميه راكبا.. ثم قمت من عنده، فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات -رحمه الله تعالى ([7]).

ولن تجد في كتب التراجم منذ بدء عصر التدوين إلى اليوم سواء كانت كتب تراجم اللغويين والأدباء، أو تراجم المفسرين والقراء، أو تراجم الأصوليين والفقهاء، أو تراجم المحدثين والشعراء، أو غيرهم في مختلف العلوم والفنون، لن تجد منهم من قضى أجله، أو نضب أمله، فقضى منتحرًا محبطًا ساخطًا على الحياة والقدر!

في الوقت الذي تجد في الثقافة الغربية أن الضّجر والإحباط، وصعوبات الحياة، تحمل بعض مشاهير العلماء؛ فلاسفة وتقنيين وفيزيائيين إلى الانتحار! بل بلغ الأمر إلى علماء العلوم الإنسانية الذين ينتظر منهم إنقاذ السواء وبث روح التفاؤل والأمل مثل علماء النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا= للأسف أننا نجدهم جميعًا فيهم نماذج مشهورة ممن اختار الترجل عن الحياة منتحرًا، تاركًا خلفه عشرات الأسئلة والاستفهامات، يفعلون ذلك مع الرفاه والدعم الذي عاشوه، والحظوة والسعة التي تمتعوا بها. ومن أمثلتهم:

·      خبير في الأسلحة البيولوجية (ديفيد كيلي) والمنتحر سنة 2003م وكان بدء مسيرته المهنية في مجال العلوم الزراعية. بين 1984 إلى 1992 وشغل منصب مسؤول عن قسم علم الأحياء المجهري في مركز الأبحاث البريطاني وذلك عن الأسلحة الكيماوية في بورتون داون. وعمل بعد ذلك ككبير مستشاري الحرب الجرثومية التابعين للأمم المتحدة في العراق بين 1994 و1997 وانتقل للعمل بوزارة الدفاع بعد أن كان مستشارًا في وزارة الخارجية. لكن صاحبنا كيلي في 2003 عثر على جثته منتحرًا وعرق يده اليسرى ممزقة!!([8]).

يخبرنا إميل ديركايهم في كتابه عن الانتحار أن القاسم المشترك بين كل المنتحرين أنهم يعيشون أوضاعًا نفسية متشابهة... ولهذا يُعتقد أن الإرهاق وكثرة العمل التي يعيشها العَالِم تجعله يقتل نفسه!!([9]) 

قارن مثل هذا بما نقل عن النضر بن شميل التميمي في استيعاب العلم وقته مع عظم الفقر والحاجة فيقول: لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع وينسى جوعه([10])


نعود إلى أخبار العلماء الغرببين المنتحرين:

·      عالم الرياضيات والبرمجيات والفيلسوف المتمنطق (آلان تورنغ) وكان تورنغ مؤثرا بشكلٍ كبيرٍ في تطوير علم الحاسوب النظري، حيث قدم صياغة رسمية لمفهومَي الخوارزمية والحوسَبة باستخدام آلة عرفت باسمه (آلة تورنغ)، والتي يُمكن اعتبارها من بينِ النماذج الأولى للحواسيب مثلما هي عليه اليوم؛ لذا يُنظر إلى تورنغ على أنه "أبو علوم الكمبيوتر النظرية والذكاء الاصطناعي". لكن في نهاية الأمر عثرت مدبرة المنزل على آلان تورنغ وقد فارق الحياة في غرفة نومهِ بمنزله. وتبيَّنَ أنهه توفي في اليوم السابق عن عمر ناهز الـ 41 عاما، وذلك سنة 1954م وثبت أنه انتحر بتناوله سم السيانيد ([11]).

·      الغريب في الأمر أن بعض هؤلاء يكون سبب انتحاره عدم مقدرته على الاستمرار في التميز العلمي وبالتالي المحافظة على المكانة العلمية المرموقة التي وصل لها، وخير مثال لذلك عالم الكيمياء العضوية الألماني (فيكتور ماير) الذي وصل لرتبة (بروفيسور) وهو بعد في سن 24 من العمر، وعمل بأعرق الجامعات الألمانية حيث كان بدون منازع من أشهر وأهم علماء الكيمياء في نهاية القرن التاسع عشر، ومع ذلك أصيب بحالة نفسية حادة قادته في نهاية المطاف أنْ توجه في إحدى الليالي إلى مختبره العلمي ليُنهي حياته بتناول سم السيانيد. وذلك سنة 1897  ([12]).

·      لم يقف الأمر عند أصحاب العلوم التطبيقية بل حتى الروائيين والأدباء والنفسانيين -كما أسلفت- ومن أولئك الروائي والصحافي والنّاقد والنّفساني الإنكليزي (أرثر كوستلر) إذ كان يعد واحداً من أصحاب الأصوات والأفكار الأدبية والسياسية المهمة في القرن العشرين اشتهر بروايته "ظلام في الظهيرة" التـي تناول فيهـا تحول فكره الأيديولوجي عن الشيوعية، درّس كوستلر العلوم الطبيعية وعلم النفس في جامعة فيينا بين عامي 1922-1926، يُشاع عن كوستلر أنه قضى منتحراً في لندن، لإيمانه بمبدأ القتل الرحيم بعد صراع مع مرض سرطان الدم، وأن زوجته أقدمت على الانتحار معه. وذلك في سنة 1983م ([13]).

·      ومنهم الشاعر والكاتب والأديب والسينمائي (غاي ديبورد)، وهذا الشاعر الفرنسي الشهير كان من أشهر كُتاب فرنسا الماركسيين، وترجمت أعماله إلى عشرات اللغات. أقدم ديبور على الانتحار بإطلاق النار على رأسه (أو ربما قلبه) في عام 1994، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يحاول فيها إنهاء حياته، ويعتقد العديد من الناس أن ديبور شعر باليأس حيال المجتمع ذاته الذي كان يحاول تسليط الضوء عليه!!

·      ومنهم الدكتور غريغوري إيلز، المدير التنفيذي لخدمات الاستشارات والصحة النفسية (CAPS) في جامعة بنسلفانيا، توفي منتحرًا صباح يوم 9 سبتمبر 2019.

وكان قد تولى هذا المنصب في مارس من العام نفسه، بعد أن عمل لمدة 16 عامًا في المنصب نفسه بجامعة كورنيل. أكدت وفاته كحالة انتحار من قبل مكتب الفحص الطبي في فيلادلفيا، وأفادت التقارير أنه توفي بعد قفزه من مبنى في وسط مدينة فيلادلفيا، وعن خلفية الدافع للانتحار؛ أشار أفراد عائلته إلى أنه كان قد أخبرهم بأن الوظيفة الجديدة كانت أكثر تحديًا مما كان يتوقع([14])، ولا تتوقع أن صاحبنا كان فقيرًا معدمًا لا يجد لقمة العيش فانتحر لأجل ذلك! خصوصًا إذا علمت بأن متوسط رواتب أضرابه في المنصب ذاته 144,000 دولار سنويًا أي ما يقارب 540,000 ريال سعودي سنويا، بمعدل 45,000 شهريًا خلا ما يتلاقاه من خدمات وتسهيلات ([15])،  

والقائمة تطول وراجع مصادر قصصهم وما كتب عن هذه الأسماء تجدهم جميعًا اختاروا الموت والانتحار، على الصمود أمام ضغوط الحياة، كل ما عليك هو أن تدير محرك البحث باحثًا عن قصة انتحار هذا العالم أو ذاك الفيلسوف أو هذا النفساني الشهير.

ولنواصل التمثيل بإيجاز أكثر لقائمة من أسماء العلماء الغربيين المنتحرين، فمنهم:

·      الفيلسوف (والتر بنجامين) قتل نفسه بجرعة زائدة من المورفين 1940م وكان فيلسوفا يهودي الديانة ألماني النشأة وكان ناقدًا وأديبا[16]

·      الفيلسوف الهولندي الشهير (اوريل دي كوستا) تكشف التقارير أنه انتحر في 1690 في العاصمة الهولندية امستردام[17]

·      الأستاذ الألماني (يوهان روبيك) كان مشرّعا للانتحار فرمى نفسه بنهر ويسر وقد أشير إليه في رواية فولتير "كانديد" بالأستاذ الألماني وذلك سنة 1739[18]

·      الفيلسوف الشهير (جيل دولوز) والذي اختار أن يموت منتحرًا فرمى نفسه من نافذة شقته بفرنسا[19]

·      (أوتو وينينغر) كان فيلسوفًا نمساويًا، عاش في الإمبراطورية النمساوية المجرية. في عام 1903، نشر كتاب الجنس والشخصية، الذي حصد شعبية بعد انتحاره وله آراء أثرت في التحليل النفسي والجنس لكنه اختار أن يطلق النار على نفسه منتحرًا[20]

نقف عند هذا الحد، إذ يكفي من المثال ما أوضح المقال، وإلا فالقائمة التي وقفنا عليها تربوا على ال 40 اسمًا وهذا مع عدم الاستقراء التام والاستقصاء الحثيث!!

في الختام

في الماضي كنا نظن أن الأميين والساقطين والجهلة، وأصحاب الخرافات والعقائد المنحرفة، وحدهم من يختارون الانتحار على الصمود، فينهزمون أمام الكروب!

لقد كان الناس في بعض الثقافات، إذ وصل الرجل إلى الشيخوخة وشعر بالسّامة والملل أنهى حياته بالانتحار، ومن العقائد الباطلة ما حمل بعضهم على الانتحار لأن مجتمعهم يظن أنّ من الشّرف أن تعلن عن موعد موتك!! حتى قال بعضهم (... لقد مات فلان وضحى بنفسه كما تقتضي عادة الحكماء)، ومن تلك العوائد المنحرفة: أن تنتحر المرأة لموت زوجها، أو الانتحار لأجل موت الملك.

كل أولئك عالمهم وجاهلهم حمل شبهة مميتة تقول إنه يملك الحق في أن ينهي حياته وقت شاء!! ([21])

وحتى المدنية الحديثة عوض أن تحمل الإنسان على الرقي في النّظر إلى الحياة، وجد الإنسان في منتجاتها الحضارية فرصًا لابتكار صور جديدة للانتحار، فكان العلماء ينتحرون بحقن أنفسهم بمواد قاتلة، أو شمها، ومن المنتحرين من يستثمر وجود مبنى شاهق ليلقي بنفسه من أعلاه، ومنهم من يلقي بنفسه على سكة حديد! فالتقنية الصناعية والهندسة المعمارية تم استثمارها بشكل مميت! ([22])

ولئن صدق ذلك في العامة والجهال فإن الأمر غير مستساغ في العلماء والأدباء والمفكرين، إلا حين تلاحظ أن البناء النفسي الذي لا يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر سهل أن يقف صاحبه أمام أحداث الحياة ومشكلاتها موقف العاجز الذي يفقد صبره وصموده وصلابته النفسية ليقع فريسة حل بليد اسمه الانتحار. مع كل ما يتمتع به من علم وذكاء وفطنة ودهاء! وما يعيشه من ترف وسمعة وثراء!!


إننا حقيقون بالافتخار العميق، وجديرون بأن نرفع بالفخر عقيرتنا في أذن الكون وسمع العالم؛ بديننا وثقافتنا وتراثنا، لأننا من أمة الأمل، فكتب التراجم والتاريخ والطبقات لم تنقل لنا ظاهرة اسمها انتحار الفقهاء ولم تخبرنا عن انتحار المحدثين ولم تسطر خبر انتحار اللغويين والأدباء! لأن ثقافة الإحياء والجمال علماؤها لا ينتحرون!



المراجع:

 ([1]) صحيح الأدب المفرد للألباني حديث(371)

 ([2]) مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، دار هجر (ص37)

 ([3]) قيمة الزمن عند العلماء، لبعد الفتاح أبوغدة (ص45).

 ([4]) وفيات الأعيان لابن خلكان (2/248)

 ([5]) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (15/121)

 ([6]) طبقات الشافعية لتاج الدين السبكي،(6/40).

 ([7]) الجواهر المضية، في تراجم الحنفية، لعبد القادر القرشي (1/76).

 ([9]) الانتحار دراسة في ضوء علم الاجتماع، لإيميل دوركهايم،2023 ترجمة فاروق الحميد، دار الفرقد، الشارقة، ص23

 ([10]) صفحات من صبر العلماء على الشدائد في تحيل العلم لأبي غدة ص147

 ([21]) انظر: الانتحار دراسة في ضوء علم الاجتماع، لإيميل دوركهايم، ص254

 ([22]) المصدر السابق ص361

Komentarze


bottom of page