في عام الشعر العربي، لنا أن نسأل الآباء والأمهات هل يحفظ أولادكم شيئا من عيون الشعر العربي؟!
في هذه اللحظة التاريخية التي تعود للشعر العربي هيبته، حاملاً هوية مهد الشعر العربي، حيث بقي إلهامًا موحيا عبر قصائد العربية، العبقرية البناء واللوذعية الصّيت، الحاملة لكل معاني المروءة والنخوة والشهامة العربية التي جاء الإسلام بتتميمها، "وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ومن نافلة القول أن نخبر أن العرب استعملت ديوانها وسيلة تهذيب، وأداة تربية وتأديب، لأن التربية والتأديب في كل أمة إنما تستند إلى ثقافتها المرجعية، وكان الشعر وآداب العربية هويتهم وموئل ثقافتهم.
وآداب كل أمة هو موئل فلسفتها التربوية ولهذا نقل لنا (بيتر) في تاريخ الطفولة العالمي عناية الاتحاد السوفيتي بالتلقين العقائدي الماركسي للطفولة ([1]) بل نقل التصعيد في الفلسفة التربوية اليابانية إذ قالوا: عليكم تعليم الأطفال التراث سواء أحبوا ذلك أم لم يحبوه ([2]).
أما العرب فقد كانوا في جاهليتهم حريصون على تفتيق قيم الطفل وتمتين خصاله من خلال تلقينه عيون الشعر ومحاسن الآداب.
ولئن كان الشعر ديوان العرب الذي حرصوا على تلقينه صبيانهم؛ فإن نزول القرآن الكريم شكل تحولاً جذريًا في الشأن التربوي في تاريخ الإسلام، فَلُقّن الأطفال القرآن الكريم وحُفِّظوه، ليهذب طباعهم ويؤدب سلوكهم.. وفي هذا يقول ابن خلدون: اعلم أنّ تعليم الولدان للقرآن شعار الدّين أخذ به أهل الملّة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم؛ لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده... وصار القرآن أصل التّعليم الّذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات([3])..
ومع ذلك كان لرواية الشعر عناية حتى في زمن نزول القرآن الكريم، وفي زمن الصحابة رضوان الله عليهم بعد ذلك، موظفينه في تهذيب الطفولة وتأديبها ولا أدل على ذلك مما جاء في صدر الإسلام مما نسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، علموا صبيانكم لامية الشنفرى فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق([4]). وجاء عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: إذا قَرأَ أحدكم شيئًا من القرآن فلم يَدرِ ما تَفسيرُهُ فليلتمسه في الشِّعر، فإنه ديوان العربِ([5]).
وأولى من ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن الشريد الثقفي رضي الله عنه حيث قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، قال: "هيه" فأنشدته بيتا، فقال: "هيه" ثم أنشدته بيتا، فقال: "هيه" حتى أنشدته مائة بيت([6]).
ومثل ذلك حادثة حسان وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم حين أنشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وذلك ما حمل إمامًا حجة في الحديث والقراءات مثل أبي عمرو بن العلاء أن يقول في قصيدة المثقب العبدي التي مطلعها:
أفاطم قبل بينك متعيني: لو كان الشعر كله مثل هذه القصيدة لوجب على الناس أن يتعلموه!([7]).
ومثل هذا المعنى ما حمل الإمام المقرئ علي الكسائي وهو ينيب خلف الأحمر مكانه في تأديب أولاد الخليفة الرشيد أن يخبره بأن التأديب مما يعنيه أن يرويهم عيون أشعار العرب حيث قال الكسائي: إنما يحتاجون في كل يوم إلى مسألتين في النحو ، وثنتين من معاني الشعر ، وأحرفٍ من اللغة([8]).
ذلك أن العهد الأموي والعباسي أظهرا مزيد اهتمام بالمؤدِّبين ولهذا كانوا يهتمُّون باختيار المؤدبين لأبنائهم من أفاضل علماء العربية، كما اهتموا بإرسال أبنائهم إلى البوادي والقرى، ليسمعوا أقاصيص لغتهم العربية، ويحاكوا لسانهم ويحفظوا الشعر والأمثال والنوادر، لأن لذلك عظيم الأثر، وحميد العاقبة، على أدبهم وسمتهم وبناء ذوقهم وترشيد سلوكهم.
ومما تجدر الإشارة به هنا أن شأن التأديب لم يكن في الرجال وحسب بل عَرفت ثقافتنا حضور أسماء لمؤدبات من النساء، فعُرفت حفصة الركوني مؤدبةً للنساء في قصر المنصور، ومريم بنت يعقوب مؤدبةً شهيرة في أشبيلية([9]).
ومن طريف ما نقل في شأن المؤدبين نصوص عقود التأديب والتي تتضمن رواية الشعر كأهم محاور التأديب، حيث يقول نص العقد: استأجر فلان فلانًا المؤدب، ليعلم ابنه فلان: النحو ويملي عليه الرسائل ومخاطبات البلغاء وتوقيعات الأمراء، ويرويه الشعر الجاهلي والإسلامي الحسن"([10]).
ولهذا -أيضًا- نقل المفضل الضّبي مخبرًا عن امرأة راها في حي من العرب ومعها غلام فأعجبه سمته، فسألها عن شأنه، فقالت: أرضعته حولين كاملين، فلما استتم الرضاع نقلته من طرق المهد إلى فراش أبيه، فرَبى كأنه شبل أسد...ثم أسلمتُه إلى المؤدِّب فحفّظه القرآن فتلاه، وعلّمه الشّعر فرواه ، فلما أن بلغ الحلم واشتد عظمه واكتمل خلقه، حملته على عتاق الخيل، فتفرّس وتمرّس ولبس السلاح! ([11]).
وهذا الإمام ابن خلدون يخبرنا عن تميز أهل الأندلس في تربيتهم أنّه كان من أسبابه عنايتهم برواية أطفالهم للشعر فيقول: وأمّا أهل الأندلس فأفادهم التّفنّن في التّعليم وكثرة رواية الشّعر والتّرسّل ومدارسة العربيّة من أوّل العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللّسان العربي([12]).
وسر كل هذا الاهتمام برواية الصبيان للشعر هو غنى الشعر العربي بمكارم الأخلاق التي جاء الإسلام بتتميمها، ولهذا عمد بعض الباحثين لإثبات عناية الصحابة رضوان الله عليهم برواية الشعر الجاهلي كما كان يفعل ابن عباس رضي الله عنهما في مجالسه بمكة المكرمة في شعر ابن ابي ربيعة، بل كان الصحابة يروون صبيانهم الشعر العربي الجاهلي ويأدبونهم به، وفي ضمن هذا يأتي ما أسلفناه من حض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يحفظ الصبيان لامية الشنفرى، وانظر إلى الآداب التي تعلم لامية الشنفرى من يحفظها:
فها هي تعلم الصبيان إذا حفظوها آداب الطعام حيث يقول الشنفرى:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن . . . بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل
وها هي لامية العرب تعلم الصبيان إذا حفظوها خلق المروءة حيث يقول الشنفرى:
ولولا اجتناب الذام لم يلف . . . مشرب يعاش به إلا لدي ومأكل
وها هي لامية العرب تعلم الصبيان إذا حفظوها امتلاك قياد النفس
ولكن نفسا مرة لا تقيم بي . . . على الذام إلا ريثما أتحول
ويرى بعض أهل العلم أن ما يروى من إهمال بعض الصحابة رواية الشعر إنما ذلك خاص بالشعر الذي يذكر بمفاخر الجاهلية ويحيي العصبية فحسب ([13]) وبذلك توجه النصوص التي تنهى عن امتلاء الصدر بالشعر لأن الشعر كسائر الكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح.
ولك أن تتأمل ماذا يكتسب الطفل حين يحفظ مثل قول عنترة بن شداد
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد . . . لا أتبع النفس اللجوج هواها.
وماذا يمكن أن يتعلم الصبي الذي يردد قصيدة عنوان الحكم لأبي الفتح البستي:
أقبل على النفس واستكمل فضائلها . . . فأنت بالنفس لابا لجسم إنسان
وكن على الدهر معوانا لذي أمل . . . يرجو نداك فإن الحر معوان
وإن أساء مسيء فليكن لك . . . في عروض زلته صفح وغفران
وماذا يمكن أن يتعلم الطفل وهو يردد قول بشار بن برد
خل الهوينا للضعيف ولاتكن . . . نؤما فإن الحزم ليس بنائم
وإنا معاشر الوالدين مدعوين اليوم للتماهي مع عام الشعر العربي في المملكة العربية السعودية؛ لنوظّف عيون أشعار العرب في البناء التربوي والتأديبي لأبنائنا.. لهذا ليس عيبًا أن نعيد السؤال الذي بدأنا به مقالتنا، هل يحفظ أولادك شيئا من عيون الشعر العربي؟!
وإن ذلك مما يعنيه أن تجعل عبقرية العربية وعيون أشعارها روحًا تحيي الجمال الفطري في أولادك، وغرسًا ينبت معاني النخوة في نفوسهم، وسلطًانا يحرس الفضيلة والأرومة والقيم، حتى لا يستحسنوا غير الحسن ولا يستسمنوا ذا ورم!
لا يهم في أي مرحلة دراسية كان أولادنا فعيون الشعر والأدب العربي تحمل معاني تناسبهم، ولا يهم في أي تخصص دراسي كانوا لأن الفضيلة ومكارم الأخلاق شأن ينشأ عليه الكافة في كافة الأزمنة! والله أعلم.
([1]) انظر: الطفولة في التاريخ العالمي، للدكتور بيتر ستيرنز، نشر عالم الطفولة 2015 ص180 ([2]) المصدر السابق ص169 ([3]) انظر: مقدمة ابن خلدون ص740 ([4]) والنص ثبت أو لم يثبت عن أمير المؤمنين ففي لامية الشنفرى من المكارم ما يحمل على حفظها ([5]) رواه البيهقي موقوفا من كلام ابن عباس (10/240) ([6]) رواه مسلم (5/1767) ([7]) انظر: خزانة الأدب للبغدادي (11/84) ([8]) انظر: معجم الأدباء لياقوت الحموي (4/1671) ([9]) انظر: المصدر السابق (3/1182) ([10]) انظر: التأديب في العصر العباسي الأول لسليمان قندو ص320 ([11]) انظر: جواهر الأدب لأحمد الهاشمي ص374 ([12]) انظر: مقدمة ابن خلدون ص740 وما بعدها ([13]) انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (17/245)
Comments