تربية النّاشئة على الحمْد والشّكر أعظم مرسّخ لمستقبل زواجهم وبنائهم الأسري غدًا، لأن الخراب يسرع إلى كثير من الأسر التي لا تعرف الحمْد والشّكر منذ قال إبراهيم عليه السلام لولده إسماعيل عليه السلام، (غير عتبة بابك)[1]
ولو سألتني كيف أبني تلك النّفس الحامدة الشّاكرة فيمكنني أن أذكّرك بنموذجنا السابق، المبني على تصنيفنا للمراحل العمرية، فالسير معه يقينا العثار ويضمن سلامة البناء -إن شاء الله تعالى-
● في مرحلة اختيار الزوجين لبعضهما، لابد أن نبحث عن مؤشرات تثبت لنا أن هذا زوج شاكر، أو هي زوجة شاكرة، فالطباع سرّاقة ولبان الأم أرسخ توريثا في خلق الناشئة، ومن تلك المؤشرات: مقدار كم يحمد هذا الإنسان ربه ويشكره؟ وهل شكر قليل ما قدمناه له، من لطف الصلة؟ وهل يشهد له من حوله بأنّه حامد شاكر؟ وهل يَعترف بالفضل للآخرين؟
لأن من لا يرى إحسان الآخرين، ولا يعترف لهم بما يستحقون من الثناء، لن يحمد لك بذلاً، ولو أزهقت روحك من أجله!
إن مرضى الاستحقاق، ومرضى الكِبر، والمتطلعين إلى مالا يستحقون، لا يحمدون لأحد بذلاً، ولا يشكرون لأحد نعمة!
إن الممتلئين بمرض (شوفة النّفس) و (أنا خير منه)، و (أنا كثير عليك)، لا يمكن لهم أن يحمدوا لرفيقٍ نعمة، مهما نصب واجتهد! فتنبه لهم فترة الاختيار.. ولتعرفنّهم في لحن القول!
وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه " ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه[2]
ألم يصدح بها زهير بن أبي سلمى مبكرًا حين قال:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
● وفي مرحلة الطفولة (من الميلاد إلى السابعة): لنبني نفسًا حامدة شاكرة، لابد لنا من الاشتغال برعاية فطرة الحمْد والشّكر لدى أولادنا، وهنا تخبرنا النّصوص بأنّ الإنسان وهو جنين فتق الله تعالى فيه السمع والبصر وسائر الحواس، والتي يولد بها وتنمو قواها شيئا فشيئا وما كل ذلك إلا ليتعلموا الحمْد والشّكر!
قال تعالى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، قال الإمام البغوي في تفسيرها: "لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَهُمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ الْعِلْمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمه([3]).
وهل بقي تصريح بعد هذه الآية حتى نعمل على تربية أطفالنا على الحمْد والشّكر!!!
ولا ننسى أنّ من أهم سبل تفتيق ذلك الحمْد والشّكر في حواس الأطفال يكون بأن يرى الطفل من والديه ممارسة عملية للحمد والشكر، ومن لم ير ذلك في والديه بالجملة، فأبشر بتشوه وعيه، وتعطيل حواسه، عن ممارسة الحمْد والشّكر، ومعرفة ما للآخرين من فضل، فالطفل الذي لا يرى من والديه حمدًا وشكرًا لأجداده الذين هم والديهم فليعلم الآباء أنهم بذلك يمنعون فسائل الحمد أن تنمو في جوانح الذرية، بل إن ذلك مؤذن بتنامي بذرة الجحود، التي يمكن للشيطان أن يستثمرها لتنمو، ويرعاها فتأكل الأخضر واليابس في أفعال الطفل مع من حوله.
ومن معالم بناء نفس الطفل الحامدة: تحصين الطفل بالأوراد الشرعية إذ هي من المؤثرات العجيبة إذ تضعف لمة الشيطان في النفث في صدر الطفل، وحتى نعلم ماذا يعني تحصين الطفل من الشيطان في هذا الباب بالذات؛ يكفيك أن تتذكر أن الملحمة التي نحياها في دنيانا كلِّها كانت ثمرة وسوسة الشيطان إثر جحوده، حين لم يعرف لربه فضلاً ولا نعمة، بل اتكأ على كِبره وقال (أنا خير منه) فعصى ربَّه ولم يستجب؛ وماذا تتوقع من نفثه ووسوسته لولدك في صباه هل يصله منها البِر والحمْد والشّكر؟ أم اللؤم والكِبر والجحود؟
● وفي مرحلة التمييز (من السابعة إلى العاشرة) نبدأ بتلقين وتعليم الطفل صور الحمْد والشّكر، فيتعلم قصصها، ويعرف أخبارها، ويحفظ نصوصها، وأول ذلك حمد الله تعالى وشكره فهو المنعم المتفضل، ولك أن تتصور حين ترسم في وعي طفلك المميز بجمهرة من النصوص التي تحيط به أنه لن يحمد الله ويشكره حق الحمْد والشّكر، حتى يبدأ ذلك من حمد النّاس وشكرهم، ومعرفة الفضل لهم!
ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله! ومن غزارة هذا المعنى في النّص نقله الرواة لنا تارة بصياغة ( مَن لا يشكرُ النَّاسَ لا يشكرُ اللهَ) ([4]). ، وتارة (لا يشكُرُ اللَّهَ مَن لا يَشكرُ النَّاسَ) ([5]). ، وأي المعاني التي تتوقع أن تصل إلى طفلك الذي يُلَقّن من صباه مثل هذا النص الذي ينقله لنا النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (التحدثُ بنعمةِ اللهِ شكرٌ وتركُها كفرٌومَنْ لا يشكرُ القليلَ لا يشكرُ الكثيرَومَنْ لا يشكرُ الناسَ لا يشكرُ اللهَ)[6]
● وفي مرحلة المراهقة (من العاشرة إلى الخامس عشرة) ننتقل بالطفل إلى مرحلة التدريب العملي ليمارس الحمد، والشكر والاعتراف بالفضل للنّاس.
وهنا تأتيك النّصوص التي تعلمنا أن حمل أطفالنا على الشكر أول ما ينبغي أن تتفتق به ألسنتهم وأفعالهم عمليا و مهاريًا، إذ يجب أن يكون ذلك مع أقرب النّاس إليهم، الذين لا يسعهم فطرة وطبيعة إلا أن يشكروهم؛ لأنهم أول من أحسن إليهم من الخلق، بل إن فضل الله على الطفل إنما وصل إليه عن طريق هؤلاء الناس، قال تعالى عنهم: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير}[لقمان:14] قال ابن جرير الطبري في تفسيرها : "وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك، ولوالديك تربيتهما إياك، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك"([7]).
والطفل الذي لا يمارس الحمْد والشّكر مع والديه لن يمارس الحمْد والشّكر مع زوجه غدًا، وهذه يمكنك أن تستشفها سنة إلهية ثاوية في إشارات هذا النّص العظيم، وهو يتحدث عن الحمْد والشّكر منذ نعومة أظفار الأطفال! -والله أعلم-
● وفي مرحلة البلوغ والشباب لابد أن نسند إلى الفتيان حديثي العهد بالبلوغ مسؤوليات تتصل بالحمْد والشّكر، حتى يصل إلى حمد وشكر من لم يحسن إليه أصلاً، لأن من اقترب منك ولم يصلك منه شرٌ، فهو جدير بالشكر على السلامة منه!
إن الشاب الذي اعتاد قبل بلوغه على معرفة الفضل لوالديه، وإخوانه، وجيرانه، ومن صلّى بجواره....، سيكون حامدًا شاكرًا بعد بلوغه، ومن لم نعوده فلا ننتظر منه ذلك بعد بلوغه مع المحسن إليه فكيف بمن لم يحسن إليه! إذ استدعاء مثل هذا الخلق عسير الاستنبات؛ إلا بشديد الترويض للنفس، وذلك لا يتفق لكل أحد!
ومن الصور التي لابد للشباب مع بدء البلوغ ممارستها ما أشار إليه النص، في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أُعطي عطاءً فوجد فليجز به، ومن لم يجد فليُثنِ، فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر..) قال أبوعيسى الترمذي: معنى قوله ومن كتم فقد كفر: أي قد كفر تلك النعمة([8]).
ولابد أن يبلغ الشاب وهو يعي أنه لا ينفك عن نعم الله عليه في كل حين، فهو حين أطاع وجب عليه شكر نعمته أن مكّنه من الطاعة، وإن عصى وجب عليه الشّكر أن لم يقبضه وهو على معصية، إنها نعم بعضها فوق بعض تتوالى مع ترداد النفس، وشكرها واجب وقد حملنا النّص تلك المسؤولية كاملة قال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}.[لقمان:12]
● وهنا لابد لنا من الإشارة إلى أنّ الوالدين مطالبان بتربية الذّكر والأنثى على هذا الحمْد والشّكر، ولكنّه في حق ابنتهم الفتاة الأنثى أولى وأجدر وأظهر وأهم؛ لأنها التي يطارها ناموس ضعف الأنثى الذي يَحْمِلها على جحود نعمة الزوج، كما في الحديث الصحيح (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ). ([9]).
● بل إن الاهتمام بالفتاة الأنثى أهم لأنّ عدم شكرها لزوجها يعرضها لعقوبة كبائر الذنوب ففي الحديث (لا يَنظُرُ اللهُ إلى امرأةٍ لا تَشكُرُ لزَوجِها، وهي لا تَسْتَغْنِي عنه) ([10]). ولا أظن والدًا أو والدةً يتمنيان لا بنتهما الوقوع تحت هذا الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد!!
ولا ننسى أنّ إبراهيم عليه السلام إنما أمر ولده بتطليق زوجه غير الشاكرة، فهي التي لم تكن شاكرة، وأمره بإمساك زوجته الحامدة الشاكرة، لأنها هي الشاكرة. وفي ذلك دلالة واضحة على اختصاص الأنثى بمزيد اهتمام في تربيتها على هذا الحمْد والشّكر، فإن غيابه يستدعي فسادًا موشكا على بيت الزوجية!
المصادر والحواشي
[1] رواه البخاري (4/379)
[2] انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (6/487)
[3] تفسير البغوي (5/34)
[4] رواه الترمذي (4/939) وصححه الألباني
[5] رواه أبو داود (4/255) وصححه الألباني
[6] صحيح الجامع الصغير للألباني (1/578)
[7] تفسير ابن جرير الطبري (18/551)
[8] رواه الترمذي (4/124)
[9] رواه البخاري (1/209)
[10] أخرجه الحاكم (2809)، وقال صحيح على شرط الشيخين.
Bình luận