ليس في هذا الكون ولا في عوالمه ذرة غير موضوعة بعناية فائقة، بل كل أحداثِ الكون والحياة بما فيها برنامجك اليومي أيها القارئ =كل ذلك يسير وفق أعظم خوارزمية متقنة، بل ذاك نظام ذو معادلة عادلة مقدرة تقديرًا؛ أولست تقرأ في كلام الخالق سبحانه وتعالى ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49] ولهذا قال ابن سعدي في تفسيرها: وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية... وجرى قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير. أ.هـ، إذا ليس في الحياة ما يشذ عن هذا التقدير الإلهي الشامل!
ومن هذه السنن المقدرة على الخلق أن العمل المتقن له ثمار تليق بإتقانه، والعمل الكثيف له ثمار تليق بكثافته، والأعمال التافهة لها ثمار تناسبها كذلك!
وبهذه المعادلة نفهم ثمار جهد الأنبياء عليهم السلام في أقوامهم، وياله من جهد ذاك الذي تكشف عنه السير والأخبار والنصوص عن نبينا صلى الله عليه وسلم؛ بمكة المكرمة، والمواسم، والطائف، وحادثة الهجرة ، والمغازي وحفرة أبي عامر الفاسق وقصة الحجرين على بطنه، أمور كثيرة وكثيفة على صعيد الجهد النفسي وعلى صعيد الجهد البدني بل حتى على صعيد الإنفاق المالي؛ فمع أن الله تعالى امتن على رسوله بالغنى من أول البعثة (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ) [الضحى:8 ] إلا أنّه يُخْرِج كل مافي يده وبيته لله، حتى تحدث الوحي نيابة عنه إلى نسائه(إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) [الأحزاب:28] وقوله(لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ) [الأحزاب:32]، زوجة نبي إذا الأمر مختلف!
أن تأتي بولدك وزوجك إلى وادٍ قفرٍ ليس به أحد وتتركهم أمر لا يستطيعه حتى أشداء الرجال، أن تسحب ولدك من حضن أمه لتذبحه عل وجه الحقيقة، لا يستطيعه أقوى القلوب وأصلبها؛ لكن فعل ذلك أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام لعظيم استجابته لأمر ربه. إن الذي أثّر به الأنبياء عمل عميق، وعظيم، وكثيف، وسخي؛ نفسًا ومالاً وجهدًا حتى قال من يصدر عنهم "أتيتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر..."
وتعال خذ على الصعيد التربوي، الجهد الذي بذله العلماء والصالحون في أولادهم وذرياتهم حتى أصبحوا نابهين وعلماء وأفذاذًا، ومبرزين في مجالاتهم؛ لقد كان عملاً كثيفًا، وكثيرًا، وعميقًا، متواصلاً، لأن السنة هي هي والعدالة الإلهية هي هي!!
· لم يصبح الإمام النووي إمامًا بجهد المقل، ولا بهمة الكسالى، ولا التحرك في الوقت المتاح، بل نقف في ترجمته أنه قدم دمشق وعمره تسع عشرة سنة، وقد حفظ القرآن الكريم. فلزم المشايخ فكان يقرأ في كل يوم اثنا عشر درسا عليهم. وكان لا يضيع شيئا من أوقاته. فكان الإمام النووي!!
· بل هذا إمام الحرمين الجويني جاء في ترجمته، أنه لما توفي والده كان عمره دون العشرين سنة أو قريبًا منا بقليل فأقعد في التدريس مكانه! أتراهم يقعدون شابًا في العشرين في ذلك الزمن غير مؤهل لذلك!
· تفوق ابن منظور صاحب كتاب لسان العرب، لكننا لا نعرف الجهد الذي أوصله إلى كل تلك المنزلة من زمنه إلى اليوم، يقول عن نفسه: في صغري كنت لا أنام حتى أحفظ مائتي سطر!! بل قال إنه حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين!!
· يحدثنا القاضي عياض عن عبد الملك بن حبيب القرطبي الأندلسي أنه زاره تلميذه يوسف المغامي: قال فوجدته جالسا بين كتبه قد أحاطت به، حتى حانت صلاة الصبح فصليا ثم رجع إلى مقعده وقال ما صليت الصبح إلا بوضوء العشاء!!
أأبيت سهران الدجى وتبيته نومًا وتبغي بعد ذلك لحاقي!
هذا من أبيات للإمام جار الله الزمخشري والذي كان يصلي الفجر بوضوء العشاء، ومثله نُقل عن محمد بن عبودس أنه صلى الفجر بوضوء العشاء ثلاثين سنة في طلب العلم!! وهو أمر منقول عن خلائق لا يحصون كثرة منهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمهم الله!
· وذكر علماء التراجم أخبار خلائق من أولئك العلماء الذين طالت رحلتهم في طلب العلم 15 سنة مثل الإمام بن القاسم المصري، بل بعضهم 20 سنة مثل الإمام القعنبي وغيرهم كثير وكثير
· لا تتوقع أنهم بذلوا النفس والأوقات فقط دون المال، والله حتى أموالهم بذلوها بسخاء قال هشام بن عمار باع أبي بيتا له بعشرين دينارًا وجهزني للحج، وحصلت معه القصة التي ضربه فيها ملك لأنه كان صبيا صغيرًا فقال للإمام مالك: إن أبي باع منزله ووجه بي أتشرف بالسماع منك فضربتني! فحدثه مالك 17 حديثًا بعدد ما ضربه بدرته
· يا كرام إن المحدثين يعرفون من هو الإمام يحيى بن معين، لكن لتعلم أن والده ترك له مليون ونصف درهم أنفقها كلها في طلب العلم حتى لم يبق معه نعل يلبسها
· وهذا الكناني الأندلسي يحيى بن عمر، تجول بالأندلس والمغرب وأفريقية والحجاز في طلب العلم وسمع من سحنون وابن بكير وخلائق، أنفق في رحلته في طلب العلم 6000 دينار!! [1]
ونحن - ويالضعفنا نحن - نروم أن يصبح أولادنا أفذاذا بطول النوم، وكثرة الأكل وطول اللعب ثم نقول ونحن نضحك الطفولة مرحلة لعب!!
إذا لا نتباكا إذا سبقنا من سبقنا بالجد والكدح والبذل والسهر والتلذذ بمتاعب العلم والانفاق في سبيله.
إذا لم ننفق أعز ما نملك وأنفسه على تعلّم أولادنا وعلى دينهم وذوقهم وأخلاقهم ونباهتهم وعقولهم، أكثر مما ننفق على السيارات والأثاث والمقتنيات=فنحن في تقصير واضح!
القضية الأهم هي أن تعلم أن الأثر العظيم في نفسك وولدك لا يصنعه العمل اليسير والإنفاق القليل.. والجهد المتقطع!!
بل حتى منزلتك في الجنّة هي رهن عمق إخلاصك، وكم صليت، وكم مرة ختمت القرآن الكريم، وكم ذكرت الله سرًا وجهرًا، وكم بكيت من خشية الله، وكم أنفقت وكفلت وفعلت وفعلت.. وكم جاهدت نفسك ونهيتها وروضتها، وحرمتها لتكون كما يريد الله لا كما تشتهي.
وراجع تراجم القوم تعرف كيف كان جهدهم واجتهادهم في العبادة؛ نقل أبو نعيم الأصبهاني في ترجمة عبد الرزاق بن عبد الله المكتنى بأبي أحمد؛ أنه وقف أربعين وقفة بعرفة -يعني حج أربعين حجة- ونقل الفاسيُّ في العقد الثمين في ترجمة عبد السلام بن محمد المخزومى وهو مؤذن الحرم الشريف بمكة، يقال إنه وقف بعرفة نحوا من خمسين وقفة أو أكثر!!
إن كنا نتوقع أننا سنكون أولادنا وأهلينا مع الأنبياء في الفردوس الأعلى من الجنة بهذا التراخي والنّوم الطويل؛ فنحن على مغالطة كبيرة تستدعي توبات متتابعة في علاقتنا مع الله ومع العلم ومع البذل ومع تربية أولادنا وأهلينا.. "اللهم رحمتك"
[1] ـ كل الأخبار في المقالة إلى هنا، راجع فيها كتاب صفحات من صبر العلماء في تحصيل العلم لعبد الفتاح أبوغدة.
Comentários