قراءة في موقف البروفيسور مالك بدري رحمه الله من المصطلح النّفسي
- عبدالله الطارقي
- ٣٠ أغسطس ٢٠٢٢
- 5 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: ٣١ أغسطس ٢٠٢٢
البحث المصطلحي كان أول موضوع سمعته في لقائي الأول بالبروفيسور مالك بدري وذلك في قاعة المؤتمرات بجامعة الشارقة 2008 أثناء مشاركتي في المؤتمر الثاني للرابطة العالمية لعلماء النفس المسلمين التي يرأسها رحمه الله، وكانت مشاركتي بورقة حول مصطلح المراهقة والتي استحالت فيما بعد كتاب "دعه فإنه مراهق" وهو الكتاب الذي سماه البروفيسور مالك بدري بالمفاجأة لعلماء النفس العرب، وأعتز بكلمته عنه حيث قال في أكثر من مناسبة : "لقد فاجأ الطارقي علماء النفس العرب من قبل بكتابه " دعه فإنّه مراهق"، الذي نال به مكانة مرموقة، و أعيدت طباعته في أكثر من دائرة علمية"
لعل من نافلة القول إننا إذا كنا نعد البروفيسور مالك بدري رحمه الله تعالى الرائد في التأصيل الإسلامي لعلم النفس عالميًا باعتباره العالم الذي وجه بكل جرأة إصبع الاتهام لمسيرنا خلف علم النفس الغربي بدون تمحيص لمحتواه ومرجعياته ومراميه في محاضرته الشهيرة (علماء النفس المسلمين في جحر الضب) =فإنه يلزمنا أن نعلم أيضًا أن المسألة المصطلحية هي من أوائل المسائل الداخلة في قضية التأصيل وإعادة الصياغة للعلوم النفسية وفق رؤيتنا المرجعية!
ولابد أن يكون المصطلح من أوائل القضايا التي يهتم بها مالك بدري في غمرة تأسيسه لمدرسته في العلوم النفسية وفق التوجه الإسلامي لأن المصطلحات هي "مفاتيح العلوم" ومالم يتم إعادة صياغة المصطلحات ونقدها بمنهجية علمية تتجاوز لي أعناق المفاهيم لموافقة أيدلوجية معينة، أو التسور على القوانين اللسانية في تحرير المصطلح لأجل مسايرة المألوف والسائد والمتلقى من هنا وهناك= فإن مشروعنا نحو جعل العلوم النفسية أكثر فائدة لبيئاتنا الإسلامية سيبقى مجرد حلم في المشروع بدلا من الشروع في المشروع! وهي مسألة كانت في غاية الوضوح عند أستاذنا مالك بدري رحمه الله!
دعا مالك بدري رحمه الله تعالى لعدم التسامح المطلق مع المصطلح الوافد في العلوم النفسية بدون تمحيص وهو في ذلك يتوافق مع جمهرة عريضة من المفكرين والفلاسفة واللغويين الأفذاذ في عالمنا الإسلامي مثل الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، والفيلسوف طه عبد الرحمن، والعلامة الشاهد البوشيخي الذي وضع منهجية للتثاقف المصطلحي مع الآخر بما أسماه بالجمارك الحضارية حيث يقول: الإشكال المصطلحي إشكال عظيم لا يقدره قدره إلا الراسخون في العلم. وقد كان هم النّبوات، مذ آدم عليه السلام، تسمية الأشياء بأسمائها، وضبط كلمات الله عز وجل لكيلا يعتريها تبديل أو تغيير... المصطلح الوافد يجب أن تَقِفْهُ الجمارك عند الاستقبال في حدود الأمة الحضارية للسؤال، والتثبت من حسن النية ودرجة النفع والملاءمة للهوية ... ذلك أن المصطلح الوافد في العلوم المادية برئ حتى تثبت إدانته، والمصطلح الوافد في العلوم الإنسانية ظنين حتى تثبت براءته... والمصطلح التراثي في هذا الشأن له الأسبقية والأولوية على غيره متى وجد([1]).
وفي السياق ذاته يقول البروفيسور مالك بدري رحمه الله في الشأن المصطلحي:
"إنّ المتخصصين في علم النفس في بلادنا العربية والإسلامية قد غفلوا عن خطورة الانصياع لمصطلحات علم النفس الغربي، وما تحمله من مفاهيم ونظريّات و ممارسات بدون معارضة نقدية، حتى و إن حملت هذه المفاهيم والنظريّات وممارساتها تحديا ً واضحا ً لحضارتهم ودينهم و قيمهم الوطنية." ([2]).
انتقد البروفيسور مالك بدري التكلس والجمود على مصطلحات المراحل العمرية كما ننقلها من المدارس النفسية المختلفة بدون أن نفكر في أن نضع مصطلحات خاصة بنا، ثم نوائم بين الموجود في العلوم النفسية المترجمة مع موقفنا العربي والإسلامي؛ وحينها سنكون واقفين على هويتنا وتراثنا وفي نفس الوقت لم ننعزل عن العالم لأننا عالميين من الوهلة الأولى أصلا، وفي نقد ذلك الجمود على ألفاظ المراحل العمرية المترجمة يقول رحمه الله:
لقد تتلمذنا على تصانيف المراحل العمرية التي قال بها علم النفس الغربي، فقبلناها و ترجمناها للعربية، ودرسّناها لطلابنا حتى أصبحت اصطلاحاتها والنظريّات التي بنيت عليها كالمسلّمات التي لا يقوم العلم إلا بها؛ فأصبحنا نتحدث عن الطفولة المبكرة و المتوسطة، و أزمات المراهقة و منتصف العمر و الشيخوخة، و عن ترهات أطوار النمو التي قال بها "فرويد"، كالمرحلة الفمّية والشرجية و القضيبية، و كأنها مراحل يمر بها الإنسان، بغض النظر عن بيئته وثقافته و معتقداته؛ ذلك بأنّ نقل المصطلح الغربي بترجمته للعربية، أو بتعريب نطقه؛ قد يؤدي إلى التشويش الفكري و العقائدي للدارسين. ([3]).
رفض مالك بدري رحمه الله تعالى جعل المراهقة مرحلة ممتدة من 13 حتى 21 سنة كما هو سائد في العلوم النفسية باعتبار أن ما يذكر عن (Adolescence) تمت ترجمته إلى (مراهقة) بطريقة خاطئة، ولهذا بارك البروفسور مالك بدري رحمه الله تحرير مصطلح المراهقة وفق رؤيتنا العربية والإسلامية المتعينة فيقول عن كتاب دعه فإنه مراهق:
"تناول في ذلك البحث موضوع المراهقة، الذي يمثل أهم القضايا التربوية والنفسية، وناقش مضمونها من وجهة النظر الإسلامية، مستشهدًا بما ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف، وأماط اللثام عن مخاطر التقليد الأعمى لمفاهيم ونظريّات علم النفس الغربي عن المراهقة".
مالك بدري رحمه الله وقف كثيرا مع الاضطرابات الجنسية ومصطلحاتها وحرر في المسألة الجنسية كتابه الشهير الذي نال جوائز عديدة أعني كتابه "نكبة الأيدز"
إن البروفيسور مالك بدري ظل متابعًا للبحث في الاضطرابات الجنسية وتحرير مفاهيمها ومصطلحاتها النفسية لزمن طويل جدًا ويقول في هذا متابع.. وباحث.. وخبير يحلل الظاهرة وينقدها بقلم العالم الحر الذي لا ينصاع لسطوة موافقة السائد في الأوساط النفسية أو مواكبة الجمهور العام دون تحرير علمي يميز الحق من الباطل دون مؤاربة، مالك بدري عالم يقول كلمة الحق في تخصصه بشفافية علمية بدون البغي بالعلم. وهاكه يقول:
لقد تفنن علم النفس الغربي في استخدام المصطلحات وتغييرها بالتدريج؛ حتى يوجه مجتمعه العلماني بقبول ممارسات أخلاقية كان يرفضها من قبل. ولأضرب للقارئ مثلا ً عن فاحشة اللواط: فعندما كنّا طلابا ً في الخمسينيّات من القرن الماضي كنّا ندرس في علم نفس الشواذ ممارسة اللواط تحت مصطلح السلوك الجنسي المحرف Sodomy or abnormal sexual behavior
ثم تغيّر المصطلح للمثلية في السلوك الجنسي "homosexuality". وبعد أن نجح تغيير الاصطلاح في تحييد اللواط من الناحيتين الدينية والأخلاقية؛ تبدل الاصطلاح إلى gay أي "فرح"، بعدها ظهر اصطلاح "homophobia" أي اضطراب الخوف المرضي من ممارسي اللواط. فقد انقلب الأمر، وأصبح من يرفض اللواط ويكرهه هو الذي يحتاج للعلاج النفسي، وليس الممارس لهذا الفعل المحرف. وفي السبعينات حذف اللواط رسميّاً من قائمة الاضطرابات النفسية، بعدها أقدمت أمريكا على تقنين زواج المثليين. لكننا كقوم تـُـبّع نعرب الاصطلاح الغربي، دون أن ندرك معناه الحقيقي والأسباب وراء تغييره؛ فتقرأ في كتبنا و صحافتنا بأنّ هذا مثلي وذاك أصولي.([4]).
الخطأ شأن إنساني لكن كلمة الحق أمام الخطأ بعلمية شأن العلماء أمام الأخطاء العلمية -كذلك- فبيان الصواب والخطأ مسؤوليتهم أمام الأجيال!
ولهذا لم يتردد مالك بدري رحمه الله أن يرد على الأديب الشهير عباس محمود العقاد في كتابه "الإنسان في القرآن الكريم"، في دعواه بعدم التعارض بين القرآن الكريم والتحليل النفسي. في بعض تفسير بعض المصطلحات (الهو، والأنا، والأنا الأعلى)!
وهي مسألة رد فيها مالك بدري رحمه الله على خلائق كثيرين منهم عزت عبد العظيم الطويل، في كتابه "النفس والقرآن الكريم" 2005، حين قال عزت الطويل: "إن المقصود "باللاشعور" عند "فرويد" هو النفس الأمارة بالسوء، والمقصود "بمنطقة الشعور" هو النفس المطمئنة، "والأنا العليا" هي النفس اللوامة". ([5]). كل ذلك رفضه مالك بدري وبين الصواب فيه صراحة وبدون أي مجاملة مع احتفاظه بمنزلة ومقادير أولئك العلماء والباحثين، فالمسألة بين حق في مسألة علمية مصطلحية في علم هو ابن بجدته، وجذيلها المحكك وعذيقها المرجب!
إن نسيت فلا أنسى مقولة أستاذنا الكبير البروفيسور مالك بدري رحمه الله وهو في طريقه لأداء العمرة في مكة المكرمة وهو يقص لي أحد مواقفه في نقاش المسألة مع بعض المتخصصين في العلوم النفسية حيث يقول: دائما أبدأ مع الأخصائيين النفسيين في النقاش أن أقول لهم: "إنكم مسلمون أولاً قبل أن تكونوا مختصين في العلوم النفسية!"
وآخرًا أختم بكلمة للراحل مالك بدري رحمه الله حيث يقول:
لقد آن الأوان لتحرير علم النفس في بلادنا من سيطرة الفكر الغربي، وكسر قيود العبودية الفكرية ومنهجها العلماني؛ حتى يصبح علمنا النّفسي أكثر فائدة لمن يحتاجه من المسلمين([6])..
رحمك الله يا ملك بدري فقد عشت عالمًا فذا، وباحثًا جريئًا، ومعلمًا رحيمًا، وأبا ودودًا كنت مدرسة في التواضع وعدم التعالي، لقد مضيت يا مالك ولم تمارس بغيًا بالعلم ولا تكبرًا بمنصب وكذلك يفعل العلم في العلماء إذا باشر بشاشة قلوبهم بحق! مضيت يا مالك وتركت أجيالا من الباحثين في كافة أرجاء المعمورة يشهدون لك بالعلم والفضل والخلق معًا لأنك عشت عظيمًا بعلمك متواضعًا بإنسانيتك.. كذلك نحسبك ولا نزكي على الله أحدًا.
[1] انظر: نظرات في المنهج والمصطلح الشاهد البوشيخي، 1423هـ، (54-64). ([2]) مقدمة مالك بدري رحمه الله لكتاب تصنيف المراحل العمرية لعبد الله الطارقي، نشر مركز قراءات 2016 ([3]) مقدمة مالك بدري رحمه الله لكتاب تصنيف المراحل العمرية لعبد الله الطارقي، نشر مركز قراءات 2016 ([4]) مقدمة مالك بدري رحمه الله لكتاب تصنيف المراحل العمرية لعبد الله الطارقي، نشر مركز قراءات 2016 ([5]) علم النفس الحديث من منظور إسلامي، مالك بدري، ضمن أعمال مؤتمر "المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية"-1412هـ (ص 367). ([6]) مقدمة مالك بدري رحمه الله لكتاب تصنيف المراحل العمرية لعبد الله الطارقي، نشر مركز قراءات 2016
Comments