top of page

كورونا: الكرب التالي للصدمة للإنسان وعلومه!

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وأفضل المتوكلين، والمستسلم للقضاء والأقدار، وعلى آله وأصحابه أولي السماح والرّباح، والتيقظ والاعتبار.

كانت تلك المقدمة التي بدأ بها في القرن الحادي عشر العلامة مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي (ت1033هـ) كتابه، الذي حمل عنوانًا هو بمثابة جواب لسؤال من حوله حيث أسمى الكتاب: ما يفعله الأطباء والداعون بدفع شر الطاعون.

وكورونا طاعون2020 الذي داهم العالم بأسره.. حتى قال دبلوماسي أمريكي: كورونا أعظم أزمة على مستوى العالم! لهذا لسنا وحدنا داخل الأزمة بل الجميع؛ أفرادًا، ومجتمعات، ودولاً، بل حتى النظريات والعلوم هي-اليوم- في أزمة اختبار لكفاءتها أمام هذا التحدي.

ونحن نرى المعامل الطبية وهي تجتهد للوصول لعقار طبي ناجع، يحق لنا في العلوم النفسية أن نسأل هل دخلت هي الأخرى لمعاملها لتخرج مصلاً -إن صح التعبير- لإعادة ترميم نفوس الجماهير التي عاشت الذعر خوفًا من كورونا أو ذاقت الألم بفقد من تحب أو حتى تجرعت كأس كورونا ومأساتها!!

أملا في أن يعود الإنسان أشد تحملاً وأقوى صلابة نفسية في مواجهة مثل هذه الكوارث الطامة العامة.

وقديماً كان أحد علماء الاجتماع من أكسفورد يقول : إننا مهاجمون -دائمًا- بإحساس عدم الثقة بسبب أننا نقف في نقطة لا تسعفنا فيها تجاربنا السابقة!!

لكن البشرية لم يكن هذا وباءها الوحيد في تاريخها، لهذا كانت الفرصة العلمية مواتية أمام الباحثين ليقدموا قراءاتهم التاريخية عن تلك التجارب؛ لأننا نجد أن العلماء العرب والمسلمين كتبوا أكثر مصنفات كثيرة حول الأوبئة والطواعين!!

ولهذا ظهرت دراسات مثل مانشرته مؤسسة الفكر العربي تحت عنوان: الأوبئة في السرديات التراثية العربية، للدكتور نبيل سليمان، والذي أرخ لبدايات الكتابة في الأوبئة باللغة العربية إلى القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وقد أحصى محمد علي عطا 154 كتابًاحول الطاعون مثل "تحصيل غرض القاصِد في تفصيل المَرَض الوافد" لابن خاتمة الأندلسي (1299-1369م.). وقد أعاد هذا الطبيب منشأ وباء الطاعون الذي يتحدّث عنه إلى الصين. وأشير أيضاً إلى "الإباء عن مَواقِع الوباء" لإدريس بن حسام الدّين علي البدليسي (1452-1524م.) وإلى "ذكر الوباء والطاعون" لأبي المظفر السُّرمري (1296-1375م.)... ومن أبرز الكُتب المفقودة رسالة الكندي "الأبخرة المصلحة للجوّ من الوباء"، وكِتاب "نعْت الأسباب المولِّدة للوباء في مصر" لابن الجزّار، وكِتاب "الطواعين" لابن أبي الدنيا. أمّا المخطوطات فمنها "حلّ الحُبا لارتفاع الوبا" لولي الدّين الملوي، و"الرسالة الوبائيّة" للرازي...

ولهذا -أيضًا- نجد الباحث الأمريكي كرستيان ماكميلين من جامعة فرجينيا يقدم قراءته لأهم خمسة كتب -من وجهة نظره- كتبت عن الأوبئة والطواعين منها كتاب: الإيمان والعقل والطاعون للإيطالي كارلو إم سيبولا، وكتاب تطهير السهول للكندي جيمس داشوك، وكتاب صناعة مرض مداري من تأليف راندال إم باكارد، وكتاب الجائحة الأمريكية: عوالم وباء أنفلونزا 1918 المفقودة، لنانسي برستو، وكتاب غزوات وبائية للكاتبة ماريولا اسبنوزا.(https://www.almasryalyoum.com)

ولاتزال القضية تستمطر جهود الباحثين وقراءات المحللين لتجارب التاريخ المحلي والإقليمي والعالمي.

ولو انتقلنا إلى إسهامات الخبراء من خلال الإعلام ووسائله المختلفة اليوم، لرأينا مساهمات كثيرة متنوعة، غير أن الإعلام تضمن أيضًا كمًا هائلا من الاشاعات التي زادت من وتيرة الذعر والخوف والهلع لدى الجميع.. وستجد في البحوث والدراسات هنا في هذا العدد نقاشا علميًا جادًا لهذا.

ويمكننا الانتباه لأمر لافت وهو ظهور مبكر للغة "المابعديات" أعني مصطلح "مابعد كورونا" مع أن السؤال الأكثر إلحاحًا هو: ماذا عنا أثناء كورونا؟!! هل كان ذلك هروبًا أو عجزًا أو مبالغة في إرعابنا أيضًا من الغد كما يرعبنا كورونا في الآن؟

أو هو فرح بهذا الوباء الذي سيفني خلقًا يتحقق بفنائهم اتزان عدد البشر مع حجم الموارد على الأرض -كما تزعم بعض الاتجاهات-؟

غير أن وضوع ملف عددنا هنا هو الكرب التالي للصدمة وهو أيضًا من المابعديات وإن كان من زاوية أخرى إلا أنه أكثر واقعية.. وهو ماتناولته الأبحاث والدراسات في العدد من زوايا متنوعة وعبر دراسات كانت عينتها أماكن متفرقة في عالمنا العربي.

وهاهنا سؤال ربما سمعناه بداية الجائحة: هل كورونا طاعون ووباء، لا أظن أحدًا -اليوم- يشك في ذلك بل إن المؤشرات التي وضعها العلماء لمعرفة الأوبئة والطواعين تتوفر في كورونا: وأهم تلك المؤشرات عجز الأطباء عن إيجاد الدواء للمرض مع عموم البلوى به وانتشاره؛ وفي هذا قال ابن القيم عن الطاعون:... حتى سَلَّمَ حُذَّاقهم أنه لا دواء له، ولا دافع له، إلا الذي خلقه وقدَّره (من زاد المعاد4/33)، وقال السيوطي في كتابه (مارواه الواعون في أخبار الطاعون): وأكثر الناس في الطاعون من أشياء لا تغنيهم... هذا باب قد أعيا الأَطبَّاء، واعترف بالعجز عن مداواته الألِبَّاء. (نقله مرعي الحنبلي في كتابه: ما يفعله الأطباء والداعون بدفع شر الطاعون. ص: 36)

ولهذا أيضًا قال رئيس منظمة الصحة العالمية، الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، إن المنظمة ستستخدم هذا المصطلح (وباء) لسببين رئيسين هما: سرعة تفشي العدوى واتساع نطاقها والقلق الشديد إزاء "قصور النهج الذي تتبعه بعض الدول على مستوى الإرادة السياسية اللازمة للسيطرة على هذا التفشي" للفيروس.

وعودًا على بدء ونحن اليوم نواجه الموجة الثانية لكورونا نواجه حدثًا عالميًا لايزال يختبر البشرية بعمومها على كافة الأصعدة (الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية، والنفسية، والتربوية)، وفي غمرة مراقبتي كغيري من الباحثين والمهتمين، بدأنا في مركز قراءات لبحوث ودراسات الشباب بجدة الانشغال بدراسة عن الشباب في منطقة مكة المكرمة؛ لتلمس درجة تأثر الجوانب النفسية والتعليمية والأسرية، لهذه الفئة بسبب الجائحة في موجتها الأولى.

لكن المفاجأة أنه ما ان نفضت يدي من الدراسة حتى غدوت من مصابي هذا الوباء، ذلك أن احتاجت ابنتي إلى زيارة العيادة لأجل "آلام القولون العصبي" التي تعاودها بين فينة وأخرى، ويظهر أننا التقطنا العدوى من تلك الزيارة!

ومنها بدأ مسلسل المعاناة مع ابنتي وكورونا حين بدت عليها الأعراض، وتأكدنا عبر "عيادات تأكد" فتلقت رسالة أنها مصابة بكورورنا وأن عليها أن تحجر نفسها عن عائلتها.. وما إن امضيت ثلاثة أيام حتى زارتني ذات الأعرض: ارتفاع حاد في درجة الحرارة، جفاف في الحلق.. وفي اليوم التالي: تأكدت أيضًا أنني مصاب بكورونا..

وفي غمرة عنايتي بابنتي التي تتضاعف معها الأعراض يوما بعد يوم ... لاحظنا أن البيت كله قد أصيب بالوباء.. الجميع ارتفعت لديهم الحرارة.. الجميع يشكو الصداع.. الجميع يشكو جفاف الحلق.. وذهاب حاسة التذوق وحاسة الشم!!

الصغار تجاوزوا المرض بسهولة -ولله الحمد- فماهي إلا يومان والثالث اختفت الأعراض، ووالدتهم نفس الحالة وبدأت ابنتي أسماء تتماثل للشفاء.. أما عني فقد بدأت ترتفع وتيرة المرض.. وتتضاعف الأعراض.. درجة الحراة تتزايد.. انضاف بعد اليوم السابع تقريبًا عرض غريب وهو "الكتمة" وصعوبة التنفس في فترة الصباح ترتفع الوتيرة لحد أنني هممت بالذهاب للمستشفى.. لكنني قررت أن أتصبر أكثر!

ومع ارتفاع حدة المرض يوما بعد يوم.. قررت أمرين: الأول: أن لا أخبر أحدًا خارج عائلتي الصغيرة حتى لا أخيفهم، الثاني: أن أبقي تواصلي مع المجتمع الخارجي عبر اجتماعات "زووم" التي غدت سمت الأعمال في هذه المرحلة، وأبقيت اتصالاتي الأخرى أيضًا كما هي.. حتى لا الفت نظر أحد!.. ويظهر أنني نجحت في ذلك.. حتى ان أحدًا لم يلحظ ذلك لا في "نمذجة الابتكار" ولا في قراءات في اشتغالنا بإغلاق دراسة أثر كورونا على نفسية الشباب في منطقة مكة.. بل إنني عرضت كتاب الراغب الأصفهاني "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين لزملاء اثنينية العماري -اثنينية إخوان الصفا- كما يسميها هو.. دون أن يشعر الزملاء أنني مصاب!

لا أنسى أيامًا كان أولادي يقفون بمقربة باب الحجرة وينظرون إليّ يقولون نطلب لك الإسعاف؟! وأنا أنهاهم وأقول لهم أنا أفضل من أمس!!.. وربما رمقني أصغرهم من مقربة الباب ووقف متسمراً لا يدري مايقول؟

التدابير الصحية الشعبية التقليدية كانت هي مرافقتي طيلة فترة المرض: شرب الليمون مع القرنفل والحبة السوداء، مع غرغرة الملح والتعرض للشمس مرتين في اليوم.. لم أتناول أي عقار كيميائي باستثناء خافض للحرارة "بنادول"..

لكن في الحقيقة كان هناك عدد من السؤالات ظلت تلازمني منها: ألست من يدرب ويحاضر في الصلابة النفسية؟ فهل ستنهار أمام هذا التحدي؟ ألست تنادي دائمًا بالصمود أمام التحديات؟ فهل ستنهزم أمام: ارتفاع درجة الحرارة وصعوبة التنفس والصداع وألم قديم تجدد في التهاب المريئ... حتى فقدت أكثر من 12 كيلو في 21 يومًا بسبب انعدام الشهية في الطعام!!

وفي الحقيقة تجاوزت التحدي لكن السر الوحيد الذي أرجع إليه ذلك الصمود؛ هو "لطف الله تعالى ورحمته" الله وحده سبحانه وتعالى..

ولا أخفي عن القارئ الكريم أنني حاولت أن أكتب عن تجربتي لكن المزاج النفسي لم يكن يساعدني مع توفر الوقت والخلوة! -ولعلها متلازمة نفسية لكورونا- أعني فساد المزاج..

ثم حاولت كتابة مقالة حول أسئلة جريئة عن هذا الوباء الذي كشف تواضع القدرة العلمية للبشر.. فقد أثبت وباء "كورونا" أنه ليس تحدٍ للأطباء والصيادلة وحدهم لإيجاد المصل والدواء.. بل هو منظومة من التحديات "المصل والدواء" هو أكثرها ظهورًا فقط، ولعلي أشارك القارئ تلك السؤالات التي بدأتُ في كتابتها بعد زوال المرض ووصول رسالة وزارة الصحة: أنك ياعبد الله خال من هذا المرض، فكانت تلك السؤالات:

- هل يمكننا إثارة قضية: ضرورة الرجوع للذات في علومنا الطبية والنفسية فهذا الآخر الذي توقعنا قدرته العلمية الفائقة.. بات عاجزًا؟

- هل يتحدث الإعلام الغربي على تفوق السياسي والاقتصادي في المشرق في وقاية مجتمعاتنا أفضل مما فعلت أوروبا وأمريكا ثم لانسمح لأنفسنا أن نعود لتقدير ذاتنا الطبية والنفسية في المشرق أكثر من ذي قبل؟

- هل يمكننا أن نبحث بعد اليوم عن ضرورة اشتغالنا بالبحث لإيجاد النظرية العربية والإسلامية المستندة لنصوص الوحي في البيئة والنفس والصحة ومواجهة الأوبئة؟ فقد صفق الخبراء في العالم لتميز تدابيرنا الإسلامية المصرح بها في نصوص الوحي في النظافة والصحة والبيئة.. فهل يحملنا ذلك إلى خدمة هذا التراث الثر لنخرج منه ومن خلال اجتهادنا حلولا وأجوبة لمشكلات العصر وأزمات الإنسانية نفسية وغير نفسية؟

- حين نقرأ في وحينا قول الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، فكورونا بلاء بلاشك.. وأهم مقاصد البلاء معرفة النفس وحقيقتها! فهل يمكننا استثمار كورونا نفسيًا وتربويًا فقد تعرت نفوسنا من كل دعاوى الصمود والصلابة والقوة؟

- لقد كتب علماؤنا أكثر من (154 كتابًا) حول الطاعون، فهل ظهرت درسات تحليلية لتلك النصوص لدراسة تجارب العلماء عبر القرون لنستثمرها في وضع حلولنا النفسية والاجتماعية والتربوية.. أم أن عيوننا لاتزال مسمرة على العيون الزرقاء لتأتينا بالدواء وبالحل النفسي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي والسياسي؟ هل فعلا تهيمن علينا ثقافة الاستهلاك للنظريات كما تهيمن علينا في استهلاك الأغذية وكافة المنتجات المادية؟

وغير ذلك من الأسئلة التي حاولت تدوينها.. لكني اخترت الاحتفاظ بها لنفسي حتى تواصل معي أستاذنا الدكتور جمال التركي رئيس مؤسسة العلوم النفسية العربية بتونس وطلب الاشراف على ملف هذا العدد .. فوجدت مناسبة موضوعه لتجربتي ومادونت من سؤالات فلم أجد بدًا من الموافقة لطلب هذا العملاق الذي لايزال يكافح عن ضمير علومنا النفسية العربية والتراثية عبر مؤسسته مع قلة النصير وضعف الموارد.. إلا من الله تعالى ثم من همته التي لاتعرف الهدوء ولا الراحة وهو يخدم أمة "إقرأ" وأمة والقلم ومايسطرون!

コメント


bottom of page