إنَّ الشُّجون التي تحتفّ بقضية البحث العلمي والدراسات الميدانية كثيرة، خصوصًا تلك التي تهتم بعلاقة البحوث بالواقع الاجتماعي، وتَلمّس درجة إسهامها في تقديم الحلول والبرامج والمشاريع العلمية المدروسة؛ لدفع عجلة الواقع النفسي والتربوي والاجتماعي والمدني والصناعي نحو تحقيق النُّضج والرُّشد المطلوب، الأمر الذي يُسهِّل حياة الناس من ناحية، ويُحقِّق الكفاية من ناحية، وينقل الواقع للقدرة على التنافس مع المجتمعات الأخرى، أو حتى العناية بالجانب الرِّسالي الذي بوَّأَنا الله تعالى إياه في وحيه؛ ألا وهو الشهادة على الناس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. والذَّات الحضارية الشاهدة تستدعي إعدادًا، ولا شكَّ أن الشأن العلمي يأتي في مقدمة مسائل هذا الإعداد.
ومن هنا تأتي هذه المقالة الوجيزة بلفتة نقاشية مع بيئاتنا البحثية في شأننا الاجتماعي والنفسي والتربوي، من خلال مناقشة قضايا حول منهجيات بحوثنا في تلك المجالات الإنسانية، فنُسائِلُها وهي تسعى للتأثير على الواقع وطنًا ومجتمعًا عما تنتهجه من أساليب وأنساق؛ أتنتهج مناهج عالمية الطَّابع؟ أم أنها تُجرِي أبحاثها بمناهج جديدة مبتكرة؟ أم أنها تبني على مناهج تراثية قديمة؟ أم أنها تبحث واقعنا الإنساني والاجتماعي بخليط من تلك المناهج؟
ذلك ما تروم هذه المقالة تسليط الضَّوء عليه وعلى أثره، في نقاط وجيزة. ومن الله نستمدُّ العون والسَّداد.
بين يدي موضوعنا، ربما يَحْسُن أن نَدْلف إليه من زاوية تتصل بممارسي البحث وكفاياتهم؛ فأتذكَّر أنني قد نشرتُ في عام 1428للهجرة النبوية ورقةً علميةً، شاركتُ بها في مؤتمر "تطوير التعليم في العالم العربي" في ردهات جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في العام نفسه، ولا أنسى هنا التَّنويه والإشادة بعظمة هذه الجامعة وكفاءتها وحُسن إدارتها لتلك التَّظاهُرة العلمية. وقد قَدَّمَ الصحفي المتميز بخيت الزهراني في مقالةٍ له في صحيفة البلاد خُلاصةَ الورقة، وسمَّاها "الصَّرخة" ([1])، وهي ورقةٌ اقتراحيةٌ لإعادة النظر في أساليب تعاطينا مع قضيَّتين: إحداهما متعلقة بالتعليم (وهي الهدف الرئيس للورقة)، والأخرى متعلقة بموضوعات البحث العلمي.
أما المتعلقة بالتعليم: فتتلخَّص في بحث أساليب توجيه الطلاب نحو التخصصات في التعليم الجامعي، والتي يتم فيها الفرز الحادّ، فيلتحق المتميزون وذوو النِّسَب العالية في الثانوية بالتخصصات التطبيقية، كالطِّب والهندسة، في الوقت الذي يلتحق ذوو النِّسَب المتدنِّية -أو إن شئتَ فقل: متوسِّطو الذكاء- بالتخصصات الأدبية والاجتماعية، مثل اللغة والقانون والأدب وعلم النفس والاجتماع والعلوم الإسلامية ... إلخ. وبالطَّبع فإنَّ هذا يترك أثره الإيجابي على تخصصات الطِّب والهندسة، ولكنه بالدرجة نفسها يترك أثره السَّلبي غير الحميد على واقعنا النفسي والتربوي والاجتماعي ... إلخ.
ومن القضايا التي تتأثَّر بهذه الأساليب أيضًا: البحث العلمي في هذه التخصصات؛ لأنها قضيةٌ تتصل بقدرات الباحثين الذين نتوقع منهم البحث بمعادلةٍ علميَّةٍ مركَّبة، تتطلَّب منهم حَذْقًا ومهارةً واستيعابًا لمعطياتٍ كثيرة، بين الأصالة والمُعاصَرة، والتُّراث والحداثة؛ وذلك يَصعب على متوسِّطي الاستعداد ومحدودي الإمكانات القيام به على وجه التَّمام الذي يحتاجه واقعنا الذي تتعاظم تحدِّياتُه يومًا بعد آخر.
أما المتعلقة بموضوعات البحث العلمي:
فتتلخَّص في أنَّ الباحث في مرحلتَي الماجستير والدكتواره وفي أبحاث التَّرقية، يتَّجه إلى اختيار موضوعه البحثي من تلقاء نفسه، دون معيارية تضمن قوة علاقته بقضايا الوطن ومشكلات المجتمع، سواء كانت اجتماعيةً أو نفسيةً أو تربوية ... إلخ.
إنَّ بعض أبحاثنا -نحن معاشر الباحثين- تعني شيئًا كبيرًا للباحث نفسه؛ إذ إنَّها سبيله للحصول على الدرجة العلمية، بغضّ النظر عن إسهام بحثه في حل مُعضلات علمية لها أثرها وانعكاسها على الحياة الاجتماعية، أو علاقتها بعلاج مشكلات مجتمعه بنظرته الثقافية المُتعيّنة التي لا تجعله تابعًا لمجتمعات أخرى، كما تضعه في سياق التنافس العالمي الذي يُزاحِم فيه الثقافات الأخرى بمنتجه المتَسم بهُويَّته!
إنَّ البحوث والدراسات شأنٌ علمي، والشأن العلمي مرتبطٌ في الوحي بحاجة الناس وهُداهم، وبما يُعِينهم على القيام بالعمران الذي لأجله خُلِقوا. قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ} [هود: 61]، وهو العُمران الذي يتصل بالغاية الكبرى، وهي عبادة الله تعالى. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ العبادة بمعناها الواسع. ولهذا جاء في القرآن الكريم ضبط العلاقة بين قائمة مفردات اجتماعية إنسانية في سياق علمي: (القوم، فِرْقة، طائفة)، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. ولعلَّ الباحث من أول الدَّاخلين في هذا السِّياق، فهو أيضًا مكلَّفٌ بتقديم ما يُفيد واقعَه من الفقه في الدِّين بمفهومه الواسع، والذي يشمل مصالح الإنسان؛ فردًا واجتماعًا.
وإذا كان الأمر كذلك، فمن السَّائغ أن نُسَائِل بحوثنا اليوم حول هُويَّتها وتقاليدها العلمية التي تنتهجها لإفادة واقعنا.
إنَّنا لن نختلف في كثيرٍ من الميادين حول مركزيَّة الهُويَّة، وبالتالي سيكون من الطبيعي تناولها في غَمْرة بحثنا عن جواب سؤالنا الرئيس: هل نبحث اليوم بأعيننا ووحينا؟ لأنَّ السؤال سؤال هُويَّة بحثية بالدرجة الأولى.
وحين نقف على حقيقة أنَّ المُنجَزات البحثية والعلمية في كل أُمَّة تحصل وفق هُويَّتها ومرجعيَّتها ونظرتها للكون والحياة، من خلال تقاليد علمية تشتمل على أبعاد كثيرة، تُعرَف اليوم بـ (برادايم أو براديغم) ([2])، فإنَّه ليس من قبيل إفشاء السِّر أن تجد أنَّ الهُويَّة حاضرة في إنتاج الباحثين ذوي المرجعيَّة الدينية؛ كنفوشيَّة، أو هندوسيَّة أو نصرانيَّة أو حتى إلحاديَّة، وكذلك تجد هذا واضحًا لدى الباحثين الماركسيِّين والرأسماليِّين والحداثيِّين ومابعد الحداثيِّين، وتجده واضحًا كذلك لدى الباحثين باعتبار موطنهم الشَّرقي أو الغربي. ولذلك ليس من المُفاجأة أن نجد أنَّ العرب والمسلمين قَدَّموا علومَهم ومصنَّفاتِهم وفق تقاليد علمية تتصل بهُويَّتهم ومرجعيَّتهم!
ولهذا يعود السؤال عن البحث العلمي والدراسات الأكاديمية في بيئاتنا اليوم: هل تعمل وفق تقاليد علمية لها هُويَّة جديدة؟ أم تقاليد ذات طابع مستفيد من تجربتنا التُّراثية أم أنها تستهلك تقاليد علمية تتّصل بهُويَّة مرجعيَّات وثقافات أخرى بحُجَّة العَالَميَّة؟
والحقُّ أنه حتى حين يُوجد قدر مشترك من التقاليد العلمية بين مختلف الثقافات والحضارات، غير أنَّ ذلك ينبغي ألا يُنسينا أنَّ لكل ثقافة ومرجعيَّة ما يُميِّزها عن الأُخريات. فما هي السِّمات التي تُميِّز تقاليدنا العلمية البحثية ودراساتنا الميدانية اليوم؟
إنَّ حضور هُويَّتنا في مجال البحث العلمي في القضايا الإنسانية والاجتماعية بالذات أمرٌ حتميٌّ ولازم؛ إذ بذلك نضمن كفاءة علاقة منتجنا البحثي بواقعنا، ونتأكَّد من مناسبته لحل مشكلاتنا؛ لأنَّنا إن فقــدنا صِلَتَنا بهُويَّتنا في الجوانب العلمية و"بتقاليدهــا العلميــة القديمــة التــي اندرســت، نتحوَّل إلى مجرد مستهلكين لتقاليد الآخرين وهُويَّاتهم"، وذلك ما لا تفعله كافَّة المرجعيَّات، مهما كانت درجة التَّقارُب فيما بينها؛ فلماذا نفعله نحن؟!
ولقد ظلَّ الدكتور عبد الوهاب المسيري يتحدث كثيرًا عن كفاءة البحث العلمي ودرجة علاقته بالواقع الاجتماعي والهُويَّة الحضارية قبل مجرد (العنعنات والجداول البيانية التي تملأ كثيرًا من الأبحاث).
وفي تلك الهُويَّة الحضارية يقول المسيري: "من أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي: انفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي، وافتراض أنَّ ثَمَّةَ معرفةً عالميةً علينا أن نُحصِّلها، مُتناسين تُراثَنا وهُويَّتنا. ولن يُمكننا أن نُبدع طالما استسلمنا لهذه المقولة؛ فهي تعني المحاولة الدَّائمة "للِّحاق بالغرب". فمثلًا؛ في أقسام اللغات الأوروبية في العالم العربي، ندرسها من وجهة نظر أصحابها وحسب، وهذا يعني سلبًا كاملًا للذَّات، تَسَبَّبَ في أنَّ ذكاءنا يتناقص؛ إذ إنَّنا نُحاول عن وعي أو غير وعي أن نستبعد هُويَّتنا الحضارية ومعرفتنا العربية أو الإسلامية وأي أدوات تحليلية مرتبطة بهذه الهُويَّة وبتلك المعرفة. وهذا الاستبعاد هو في جوهره عملية قمع هائلة للذَّات، تستهلك جزءًا كبيرًا من طاقة الإنسان لإنجازها، وإن نجح في إنجازها، فإنَّه يستهلك ما تبقَّى عنده من طاقة" ([3]).
وتلك الزاوية الأصيلة التي يقف فيها النموذج الفكري والمعرفي للمسيري مَكَّنَتْهُ من القدرة على نقد صورتنا حين نظهر في صورة المُتكفِّف للثقافة الغربية، آملين من الغرب أن يُساعدنا على إدراك تفاصيلنا العلمية والاجتماعية بكفاءة؛ وَصَفَ المسيري خطوتَنا فيها بأنها تدعو للتثاؤب والملل!
كثيرًا ما يَنظر واقعنا البحثي والعلمي إلى قضايانا العلمية مستعيرًا عيونًا زرقاء من الغرب القديم (اليونان) والغرب الجديد (الغرب اليوم) ([4]) لينظر بها في قضايانا العلمية والاجتماعية؛ الأمر الذي يُثمِر رؤيةً شوهاء، في الوقت الذي يتوجَّب علينا قراءة أنفسنا بأعيننا!
إنَّ الباحث حين يستعير عيونًا زرقاء، سوف يرى في مجتمعنا مشكلاتٍ ليست موجودةً فيه، ويعمل على بحثها وإيجاد الحلول العلمية والعملية لها، وما هي في الحقيقة إلا وَهْمًا وَقَعَ فيه بسبب أنَّه لم ينتبه لتلك العين التي استعارها من الآخر. والإشكالية الكبيرة أيضًا تكمن في أنَّ مشكلاتنا الحقيقية المتصلة بهُويَّتنا ظلَّت تتعاظم؛ لأنَّنا لم ننشغل بدراستها أصلًا، فضلًا عن معالجتها! ولعلِّي أضرب أمثلةً يغيب فيها النظر البحثي بأعيننا ووحينا. ومن ذلك:
مشكلة تمرُّد المراهقين: هكذا ندرسها ونبحثها؛ لأنَّنا ننظر لكل سلوك غير مقبول من شبابنا وفتياتنا اليوم على أنَّه انحراف بسبب المراهقة ولعنة المراهقة! وما هو إلا وَهْم. والقضية المتصلة بالمراهقة وفق رؤيتنا الحضارية هي إعداد الطِّفل حين يُراهق البلوغ ويقترب منه ليتحمّل المسؤولية والقيام بالتكليف الذي سيُكلَّف به وشيكًا عند بلوغه واحتلامه. وقد ظلَّت هذه القضية العظيمة خِلْوًا من البحث والاهتمام، بَلْهَ ظهور المشاريع النفسية والتربوية حيالها.
ومشكلة أخرى في الجانب النفسي: حين نبذل مجهودات كبرى في قضايا دراسة السلوك وعلاجه، متوهِّمين أنه هو البحث النفسي المكتمل، على الرغم من أنَّ دراسة السلوك -على أهميته- يأتي ثانيًا أمام قضايا نفسية أكثر أهميةً في أعيننا ووحينا، مثل التَّزكية التي ربط الله تعالى بها الفلاح ، والخيبة والخسار بإهمالها وتَدْسيتها، فقال تعالى في أحد عشر قَسَمًا لم تتكرر في القرآن الكريم على هذا النحو: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 1 - 10].
ومشكلة أخرى خفيَّة: هي شُبهة الهروب من الخصوصية ونُشدان العَالَميَّة، حيث يجد الباحث نفسه وهو يتخفَّف من هُويَّته الإسلامية، فلا يرغب أن ينطلق في فكرته من الآية القرآنية، وما درى أنَّ العَالَميَّة في القرآن نفسه! كيف نَذْهَل عن عَالَميَّة هذا الوحي الذي جاء بالعَالَميَّة تصريحًا في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27]، وقال عن النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء به: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. ولهذا وَجَدَ العلماء أنَّ لفظ "الإنسان" جاء في القرآن الكريم أكثر من (65) مرة؛ (9) مرات منها فقط في السور المدنية، والباقي كله في السور المكية، وهذا يعني أنَّ خطاب القرآن الكريم متوجِّهٌ لمطلق الإنسان. وهذا يُعطي انطباعًا للباحث أنَّ القرآن الكريم مهتم على وجه الأصالة بمطلق الإنسان، بغضّ النظر عن موطنه أو لغته أو أي اعتبار آخر ([5]). فأيُّ عَالَميَّة يبحث عنها الباحث بعد هذا؟!
ومشكلة أخرى: هي وقوع الباحث في فخّ تاريخي، حين يُؤرِّخ للشأن الإنساني والتربوي والاجتماعي فيبدأ بالحالة اليونانية (أنكسيماندر، أنكسمانيس، سقراط، أفلاطون، أرسطو ... وهَلُمَّ جَرًّا). فهل هذا هو مبدأ التَّجربة البشرية؟ أين ما حدَّثَنا الله تعالى عنه من أُمَم كانت لها شؤون اجتماعية وحضارية وأنبياء ومُصلِحون؟ لِمَ لا يُؤرِّخ الباحث الاجتماعي بمجتمع آدم -عليه السلام- باعتباره أول تجربة اجتماعية آدمية على الأرض؟ هل نقع في هذا الفخّ بسبب العين الزرقاء التي تقودنا لحالة اليونان في كل شيء؟!
وغيرها من المشكلات والقضايا النفسية والتربوية والاجتماعية المتعددة التي تُهيمن علينا فيها رؤى العين الزرقاء في غياب عن أعيننا ووحينا!
ولكن قبل أن أغادر هذا المبحث، أودُّ التنبيه على قضيَّتين لا تدخلان في استعارة العيون الزرقاء:
الأولى: الكتابة البحثية بغير العربية: فاللغات آيات الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]. فتأمَّلْ الآية؛ لتعرف أيَّ سياق خَلْقي راسخ جاءت فيه اللغات والألسن في عِداد الآيات.
وليس في هذا تهوينًا لمنزلة العربية؛ فكتابة الباحث بلغته وبلسان قومه مطلوبٌ؛ ليفقهوا عنه بيُسْر. وحين اخْتَطَّ البروفيسور الراحل مالك بدري -رحمه الله- مدرسته في العلاج النفسي الإسلامي، لم يكتب بحثًا واحدًا باللغة العربية؛ لما كان يهدف إليه من مخاطبة منتجي العلوم النفسية عبر APA (جمعية علم النفس الأمريكية)، وغيرها. وأظنُّ أنَّ الأمثلة المشابهة كثيرة. وأختم بالراحل وحيد الدين خان -رحمه الله- ومقارعتِه الإلحاد في أشهر كتبه، ومع ذلك لم يكتب بالعربية، بل كتب بلغته الأردية!
الثانية: الاتصال بإنتاج الآخر والإفادة منه بعد معرفتنا لموقفنا بأعيننا ووحينا: ففعلنا ذلك صواب مطلوب؛ لأنَّ رؤيتنا الإسلامية لا تخشى الانفتاح على سائر الثقافات في كل ميدان، بل هي تُفيد منها وتتعامل معها بعدل وإنصاف؛ فتعترف لها بالصواب فيما أصابت، لكنها لا تتورَّع عن رفض الخطأ ببيان واضح بأعيننا ووحينا!
إنَّ البحث العلمي حين يُؤسِّس رؤيتَه وتقاليدَه العلمية المصطبغة بهُويَّتنا الحضارية التي يُسائِل بها الواقع ويُحلِّله ويَستشرف بها مستقبلنا، يكون قادرًا على التواصل مع النظريات من خارج ثقافتنا لنُحدِّد موقفنا بعلميَّة تمنعنا من ظلم أنفسنا من الإفادة من الآخر، أو ظلم الآخر بعدم الاعتراف بنجاحاته، والله تعالى يُعلِّمنا هذا العدل في وحيه فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
و"مشكلة المنهج في البحث هي مشكلتنا الأولى، ولن يتم إقلاعُنا العلمي ولا الحضاري إلا بعد الاهتداء في المنهج للتي هي أَقْوَم. وإنَّ كثيرًا من الأموال والأوقات والطاقات تضيع بسبب فساد المنهج، وإن جاز الترخُّص في شيء، فإنَّ البحث العلمي لا ينبغي أن يكون من ذلك بحال؛ لأنَّه بمثابة القلب في جسد الأُمَّة؛ إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله". ([6])
ويُمكن للباحث أن يقترح مجموعةً من القضايا التي تُمثِّل معالم ركينة في المنهج، جديرٌ أن يتميَّز بها بحثُنا العلمي لنتحقَّق أنه يتم بأعيننا ووحينا، وحين يُؤمن بها بحثُنا لدرجة أن تكون بمثابة المُسلَّمات، يتحقَّق لنا ما نصبو إليه. ومن تلك المُسلَّمات ما يلي:
مُسلَّمة: تحرير المفاهيم والمصطلحات التي يتناولها، من خلال إعطائها حقَّها اللائق بها؛ باعتبارها مفاتيح العلوم كافَّة، والخطأ في المفاهيم يعني الخطأ في كافَّة ما بعده.
مُسلَّمة: الإيمان بالابتكار والجُرأة البحثية، من خلال نَحْت الجديد من القضايا واستشكالها، سواء من خلال تثوير النُّصوص أو مُساءلة النتائج البحثية السابقة المتصلة بالقضايا الإنسانية الحيوية، نفسيةً كانت أو اجتماعيةً أو تربوية ... إلخ.
مُسلَّمة: استنطاق تجربة التُّراث الإسلامي، وإعمال النَّقد والفهم المُعَمَّق لما تركه لنا العلماء في أربعة عشر قرنًا في مختلف صنوف المعرفة في القضايا الإنسانية، وتحليلها لنتبيَّن ما نحتاجه اليوم، وما نحتاج أن نبني عليه، وما نحتاج أن نُطوِّره، وما نحتاج أن نتجاوزه، وما يُمكن أن يفتح أعيننا على كيفية إنتاج أكثر حداثةً ومُلاءمةً للواقع.
مُسلَّمة: استيعاب إنتاج الآخر وما أنجزه من معارف وعلوم، بهدف فهمها في سياقها أولًا، ثم تحديد الموقف منها قبولًا أو رفضًا، بحسب رؤيتنا الحضارية المُتعيّنة التي ننطلق منها.
مُسلَّمة: تطوير رؤيتنا المستقبلية من خلال توظيف كافَّة الأدوات المُمكنة في علومنا الإسلامية، كالمقاصد والسُّنَن وغيرها من الأدوات؛ لفهم الواقع وكيفية تنزيل وتطبيق ما نتوصَّل إليه بعد استعمال كافَّة ما سبق من مُسلَّمات ومُنطلَقات.
مُسلَّمة: رفض الجُمُود على النَّص بغير وعي بمقاصده وأساليب تنزيله المُلائمة للواقع، مع رفض التَّبَعية الاستهلاكية للثقافات الأخرى وتقاليدها العلمية والبحثية، بغير أن تسبق رؤيتنا الثقافية العربية الإسلامية التي تُمكِّننا من إحسان التواصل مع سائر الثقافات؛ حتى لا ننصهر فيها أو نُستَلَب. وهذه المُسلَّمة هي ما حملت الدكتور هانز إيزينك أن يرفض تدريس علم النفس الأمريكي في الجامعات الأوروبية دون أن يَمُرَّ ذلك المحتوى العلمي بتأصيل يجعله مناسبًا للبيئة الأوروبية! فكيف نتوقع من واقعنا النفسي والتربوي أن تظلَّ بحوثُنا تتناول ذلك المنتج الذي لا يُناسب البيئة الأوروبية ونتوقع أنَّه يُفيدنا في العالم العربي والإسلامي دون أن تسبقه رؤيتنا الحضارية في الجوانب النفسية؟!
مُسلَّمة: الانفتاح المنهجي من خلال الجمع بين الطرق المنهجية البحثية المختلفة -تراثية ومعاصرة-؛ الوصفية والتجريبية والتحليلية والمُقارنة ... إلخ، بكل كفاءة واقتدار. وهو أمرٌ يُذكِّرنا بما بدأناه من أنَّه يَستلزم عُلُوّ مستوى كفايات الباحثين في الجوانب الإنسانية؛ فالخطأ في البحث التطبيقي والمادي مع كونه كارثةً، لن يكون أسوأ كارثيةً من الخطأ في بحث نفسي وتربوي واجتماعي!
مُسلَّمة: عدم التسوُّر على النظام الأخلاقي البحثي، والالتزام بكافَّة القِيَم والأخلاق البحثية؛ لأنَّ علاج القضايا الإنسانية بدراسات وأبحاث لا تلتزم بالقِيَم والأخلاق قد يُساوي الصلاة في دار مغصوبة، فقد تكون نتائجها ضلالًا أكثر من كونها وعيًا وعُمرانًا.
إنَّ المؤسسات الاجتماعية وهي تروم تحقيق تلك المُسلَّمات في الباحثين في قضاياها بحاجة إلى إيجاد نسق تواصلي مع الجهات البحثية المتخصصة في الشأن الإنساني داخل الجامعات أو في مراكزها البحثية أو مؤسساتها خارج الحرم الجامعي، وهو الأمر الذي يُقدِّم فائدةً مزدوجةً؛ حيث يُفيد الجامعة في تعميق صلتها بالمجتمع، كما يُفيد المؤسسات الاجتماعية والإنسانية في الإفادة من الإمكانات البحثية المتوافرة في الجامعات، وذلك أيضًا باعتبار أنَّ هُويَّة الجامعات تَنبُع من خلال الثقافة الإنتاجية للجامعة؛ ثقافة التعامل والتفاعل ما بين (تعليم وبحوث)، (جامعة ومجتمع)، ثقافة جامعية تقود إلى هُويَّة معنوية محسوسة لطلابها وأساتذتها والعاملين بها، ثقافة جامعية تُنتِج هُويَّة ذات كفاءة وعطاء، يَثِق بها المجتمع ويُصدِّق بها. ببساطة، هُويَّة الجامعة هي الثقاقة الإنتاجية التي تُسهِم من خلالها في بناء المجتمع. [7]
وفي ظل التغيُّرات العالمية المُعاصِرة، تُواجه الجامعات توقُّعاتٍ كبيرةً من قِبَل المجتمعات التي هي جزء منها. ولذلك اتَّجهت معظم الجامعات إلى الاندماج مع مجتمعاتها من خلال جعل وظيفة خدمة المجتمع الوظيفةَ الأولى لها، بل وتبنِّي اتجاهاتٍ حديثةٍ تجعلها تقوم بالدور المُنتظَر منها اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا. ومن هذه الاتجاهات: تكوين "شراكات مع المؤسسات المجتمعية". ([8])
إنَّ وَعْينَا بتلك القضايا سيُلقي بظلاله على أساليب كفايات الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تسعى لنفع مجتمعها ومُساءلة واقعه؛ لأنَّنا لا يُمكن أن نُقدِّم الجديد المتصل بهُويَّتنا في البحث العلمي بأعيننا ووحينا دون الاتصال بتجربتنا التُّراثية ووعينا بواقعنا واستفادتنا من الأدوات المعاصرة.
ذلك ما سيجعلنا نَصِل لما حقَّقَه علماؤُنا في الماضي من خلال تقاليدهم العلمية الخاصة، التي مَكَّنَتْهم من القدرة على حل مُعضلات واقعهم وحاضرهم، وحل مُعضلات النَّوازل الحادثة في زمنهم، بل ووضع حلول مستقبلية لمُشكلات ومُعضلات مُتوقَّعة لم تحصل بعد. والبحث العلمي الذي تحتاجه المؤسسات الاجتماعية حين لا يُحقِّق تلك المستويات الثلاثة بأعيننا ووحينا، فهو يُمثِّل تكرارًا قليلَ الفائدة، ولا يُقدِّم للتنمية ما هو منتظرٌ منه على الحقيقة، ولا يدعم رؤيتنا الوطنية والحضارية، وتَصِحُّ فيه مقولة ابن العربي في البحث إذا لم يخترع صاحبُه معنًى جديدًا أو يُبدع وصفًا غير مسبوق، أو ينتج فكرًا مفيدًا، فما هو إلا "التَّسويد للورق، والتَّحلِّي بحلية السَّرق"!([9])
وعلى الباحث ألا يخشى ذهاب جهده في البحث عن الحق والصواب سُدًى لمجرد أنه لم يجد لبحثه بأعيننا ووحينا مَن يلتفت إليه اليوم؛ فقديمًا قال الشافعي رحمه الله حين قيل له: إنك تتعنَّى في تنظيف الكتب وتصنيفها والناس لا يلتفتون إلى كتبك ولا إلى تصنيفك، قال: "يا بُنيَّ: إنَّ هذا هو الحق، والحقُّ لا يضيع!".([10])
[1] https://www.makkahnews.net/39471.html [2] كان طوماس كون Thomas. S. Kuhn أول من استعمل هذا الاصطلاح في كتابه "بِنْيَة الثَّورات العلمية"، الذي نشره عام 1962م، وهو يعني: مجموع متماسك من نماذج ومفاهيم ومعارف وفرضيَّات وقِيَم مترابطة بدقَّة. انظر: "الباراديغم العلمي الإسلامي" لإدريس الجابري، ضمن أوراق عمل ندوة "العلوم الإسلامية: أزمة منهج أم أزمة تنزيل"، منشورات الرابطة المحمدية للعلماء، 1431هـ (ص290). [3] رحلتي الفكرية، لعبد الوهاب المسيري، دار الشروق ص134 [4] نظرات في المصطلح والمنهج، الشاهد البوشيخي، نشر مطبعة إنفو برانت، (ص19). [5] انظر: الإنسان في القرآن، دراسة فلسفية مقارنة، لأحمد بوعود، من منشورات وزارة الثقافة المغربية، 2014، (ص8). [6] نظرات في المصطلح والمنهج، الشاهد البوشيخي، نشر مطبعة إنفو برانت، (ص19). [7] https://www.okaz.com.sa/articles/authors/2037406.lk [8] السيد على جمعة، بحث مستخلص من رسالة دكتوراه في فلسفة التربية، تخصص (تربية مقارنة وإدارة تربوية "تخطيط تربوي")، (إشراف: أ.د. محمد صبري الحوت، ود. منال رشاد عبد الفتاح). [9] عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، لأبي بكر بن العربي المعافري، دار الكتب العلمية، (1/4). [10] التعريف بآداب التأليف، لجلال الدين السيوطي، تحقيق مرزوق إبراهيم، مكتبة التراث الإسلامي، 1989م، (ص24).
بارك الله فيك
دكتور اريد التواصل معك بخصوص بحثي في علم النفس الاسلامي؟