كثير من المشتغلين بالتحليل النفسي مضطرون للتعامل مع قائمة من مصطلحات التحليل النفسي المكونة للبنية العلمية والفلسفة المنهجية لنظرية سيجموند فرويد، وهو أمر طبعي لأن المصطلحات في كل العلوم هي مفاتيحها، ولعل هذا هو السبب الذي جعل الخوارزمي يسمي كتابه مفاتيح العلوم.
ولأننا نتصل بنظرية فرويد وغيرها من النظريات النفسية قبل أن نحضر فلسفتنا الكاملة في العلوم النفسية؛ نقع في شرك الخلط بين مفاهيم التحليل النفسي والمصطلحات المكونة للبنية العلمية والفلسفة المنهجية عن النفس في وحينا وتراثنا الإسلامي!
ولن يكون لنا مأمن من الوقوع في ذلك الخلط إلا أن نتواصل مع كل النظريات بعد أن نعرف ذاتنا العلمية وفلسفتنا المرجعية في العلوم النفسية أولاً؛ وهو الأمر الذي أثر غيابه على موقفنا مع التحليل النفسي ومصطلحاته، إذ غدونا فريقين فريق يلقي بنفسه في أحضان التحليل النفسي ويحاول أن يوائم بينه وبين رؤيتنا الإسلامية النفسية وفريق آخر وقف منه موقف الرافض كليا وخسر الاستفادة من أي مجهود علمي في التحليل النفسي وأظن أن كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وهناك سبب جوهري ينضاف إلى ذلك ؛ وهو أن المشتغلين بالعلوم النفسية ليس لهم صلة قوية بعلوم القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف، ومنهجية الاستدلال فيهما، ومعرفة قواعد العلوم الإسلامية ذات الصلة بالأمر كعلم أصول الفقه، وعلم المقاصد الشرعية وعلم السنن الإلهية وغيرها من العلوم الإسلامية؛ لذا لوحظ حصول درجة من الخلط في تنزيل المفاهيم والمصطلحات النفسية التحليلية وغيرها على المفاهيم والمصطلحات القرآنية.
وقد لاحظ ذلك غير واحد، منهم: مالك بدري -رحمه الله- في دراسته الشهيرة "علم النفس الحديث من منظور إسلامي"، من منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والدكتور محمد رشاد خليل في كتابه "علم النفس الإسلامي العام والتربوي" من منشورات دار القلم الكويتية، والدكتور آزاد علي إسماعيل في كتابه "الدين والصحة النفسية" من منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي.. ولعلنا نتابع شيئًا من تلك الملحوظات من خلال الآتي ([i]):
ومن ذلك ما وقع فيه الباحث الدكتور عزت عبد العظيم الطويل، في كتابه "النفس والقرآن الكريم" 2005، حيث يقول: "إن المقصود "باللاشعور" عند "فرويد" هو النفس الأمارة بالسوء، والمقصود "بمنطقة الشعور" هو النفس المطمئنة، "والأنا العليا" هي النفس اللوامة".
وممن وقع في الخطأ ذاته الأديب الشهير عباس محمود العقاد في كتابه "الإنسان في القرآن الكريم"، في دعواه بعدم التعارض بين القرآن والتحليل النفسي ([ii]).
وفي شرك دعوى التطابق بين مفاهيم منتزعة من القرآن الكريم ومصطلحات التحليل النفسي وقع - أيضًا - كل من: عبد الرؤوف عبد الغفور في كتابه "علم النفس الإسلامي" 1987م، وكذلك الدكتور نبيه عبد الرحمن عثمان في كتابه "الإنسان: الروح والعقل والنفس"، 1987م.
وكذلك الدكتور محروس سيد مرسي في كتابه "التربية والطبيعة الإنسانية في الفكر الإسلامي وبعض الفلسفات الغربية" - 1988م.
ومما يشبه هذا ما جاء في كتاب "تهذيب الأخلاق"([iii])، الصادر عام 1913، أن ينزل تقسيم "أفلاطون" للنفس إلى (نفس عاقلة، وغضبية، وشهوانية) على اعتبار المقابل لها في القرآن الكريم، و هو (نفس مطمئنة، ولوامة، وأمارة بالسوء).
وقريبًا منه اتجاه وليد عبد الله زريق في كتابه "خواطر الإنسان بمنظاري علم النفس والقرآن" 1996؛ حيث يرى أن النفس في القرآن واحدة، ولها عدة قوى، ثم يقسم النفس إلى: عاقلة ناطقة، وغضبية، وشهوانية.
ومن ذلك خلط كثير ممن كتب في علم نفس النمو وعلم النفس التربوي أن قوله -تعالى-: (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) [الكهف] أنه يرمز لكون مرحلة المراهقة مرحلة إرهاق واضطراب؛ فيربط بين لفظ "يرهق" في الآية وبحث المراهقة في العلوم النفسية اليوم!
وهو وهم وخلط غير صحيح؛ فالفعل في الآية (يرهق) ماضيه (أرهق) بمعنى: أجهد وأوجد المشقة، غير أن المراهقة تعني مقاربة البلوغ، وهي من الفعل (راهق)، الذي يعني المقاربة، وشتان بين (أرهق) و (راهق)؛ فهما فعلان متغايران!
أخيرًا فإن المصطلحات العلمية في كل العلوم هي المرجعية العلمية لكل فلسفة ونظرية في العلوم النفسية وغيرها، لهذا لا يمكن ان يوافق على التساهل في المواءمة السطحية بين المصطلحات في أنساق مختلفة بدون وعي منهجي وتحرير علمي لتلك المصطلحات في نسقها العلمي الأصلي بدون خلط.
وعلومنا النفسية لها مرجعيتها العلمية في وحينا وتراثنا الإسلامي الممتد على مدى 14 قرنًا علنا أن نضبطها أولا في نسقها قبل أن نوائم بينها وبين مصطلحات التحليل النفسي وغيرها من النظريات.
[i]([i]) انظر كتاب كل نفس لعبد الله الطارقي1440هـ انظر: http://www.aljabriabed.net ([ii]) علم النفس الحديث من منظور إسلامي، مالك بدري، ضمن أعمال مؤتمر "المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية"-1412هـ (ص 367). [iii]([iii]) اختلف كثيرًا في نسبة الكتاب إلى مؤلف بعينه مع تعدد طبعات الكتاب، وقد ناقش نسبته الدكتور/ محمد عابد الجابري. انظر: http://www.aljabriabed.net
Kommentare