كل أهل البيت في حركة دائبة هذا يلبس ثوبه الجديد، وآخر يبحث عن حذائه، وتلك الفتاة تسرح شعرها.. البيت كله كرنفال من العطور والروائح الزكية، لا تظن أن الجامع الوحيد بينهم هو الزينة وجديد الملابس، بل الجامع بينهم أيضًا هو الفرح والابتهاج.. والبسمة التي تعلو محياهم، بل تخال جدران المنزل تكاد تصفق لهم وتبارك هذا الابتهاج.
أخي القارئ الكريم، لقد خلقنا الله تعالى نحب الجمال والزينة فطرة، والعيد يوم الجمال ولبس الزينة ولهذا اكتسب هذا اللقب في الوحي فغذا اسمه يوم الزينة! "قال موسى -عليه السلام- لفرعون، حين سأله أن يجعل بينه وبينه موعدا للاجتماع: ((مَوْعِدُكُمْ) للاجتماع (يَوْمُ الزِّينَةِ) يعني يوم عيد كان لهم قال ذلك إمام المفسرين ابن جرير الطبري (18/ 323).
ولهذا نحتشد جميعًا بابتهاج كبير بالزينة في يومها الذي اكتسبت لقبه، نلظ بحرف واحد: كل عام وأنتم بخير.. ها هي الحشود المبتهجة.. حشود صلاة العيد، وحشود القرابات في بيوتات العوائل.. وحشود الصغار وحشود الكبار.. كل ذلك بزينة وفرح غامر.
ولهذا فإنني اليوم أستأذن النفسانيين والتربويين أن نقبل التعلّم من يوم العيد والزينة! حتى يعلمنا كيف نعتنق الفضيلة بابتهاج كابتهاج يوم العيد والزينة!
أول دروس الزينة التي يطالعنا بها العيد أنه يخبرنا أن مراتب الزينة وإن تنوعت بين زينة حسية ظاهرة، وأخرى معنوية باطنة؛ لكنه يومئ بأن الجمال في الزينة المعنوية النفسية أعمق وأكثر بركة على الإنسان لأنها في تالي الأمر تندهق للظاهر من خلال سلوكنا وكلامنا ومواقفنا! فتلتقي الزينتان!
وهنا درس آخر من يوم الزينة عظيم إذ يقول لنا: إن الفضيلة التي نروم أن نربي عليها الناشئة بحاجة إلى تقنيات الزينة حتى تَزين وتصبح جميلةً وحينها سيعتنقونها حقا، ويحبونها دوما، وتظهر في سلوكهم أبدًا.
وهل يعني هذا أن يشتغل الوالدان بالتزيين؟ وهل ذلك لائق؟
جواب ذلك أن دروس يوم الزينة تقول لنا: إن كل الذين يرومون التأثير على سلوكنا لا مفر لهم من تزيين ما يريدون منا فعله! وربما لهذا نسب الله تعالى التزيين لنفسه سبحانه وتعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، فلولا أن الله زين في قلبك الصلاة لما صليت، ولولا أن الله زين في قلبك الخير لما فعلته، وكل الذين يلتزمون فعل فضيلة فذلك من آثار تزيين الله تعالى له ذلك!
فالوالدان حين يهملان تزيين الفضائل في نفوس أطفالهم في كل مراحلهم العمرية، فإنهم يفسحان المجال للعدو الأول؛ لأنّ الله تعالى مكنّه من القدرة على التزيين في نفوسنا، ألم تر أن الله سبحانه قال {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48]، ولا تسأل حينها لم يفعل ذلك الفتى وتلك الفتاة تلك المعايب.. لأنها قد زانت في نفوسهم!
وهذا بحد ذاته يقودنا إلى دعوة الوالدين والتربويين إلى تعلّم أساليب التزيين لما يريدون أن يلتزم أولادهم فعله، وتعلّم أساليب تقبيح السوء إلى نفوسهم حتى يبغضوه ويتجافوا عنه.
إن كل الذين أخذوا منا أولادنا زينوا لهم فزان في نفوسهم ففعلوه، {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة: 37]، ولعل في بناء الفعل زين للمجهول فتح باب الدلالة في هذا المزيّن، فقد يكون صديقا فاسدًا، أو شاشة آثمة، أقول ذلك مع أن سياق الآية واضح في أن المزين هم الكفار كما قال الراغب الأصفهاني في المفردات(ص: 389).
ولهذا كله ينبغي أن لا نتفاجأ إذا لم يستمر الناشئة بعد البلوغ على فعل وسلوك طريق غير التي ظننا أننا ربيناهم عليها، لأن تركهم لها بعد البلوغ ربما كان سببه أن تلك الفضائل لم تتزين في نفوسهم أو لم يكتمل حسنها!
ولعل المؤشر الذي ينبغي لنا تلمسه حتى نتأكد أن الذي ربينا عليه أطفالنا زان في قلوبهم فأحبوه، نستلهمه من قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14].
فهل أحب أولادنا ما ربيناهم عليه كحب الإنسان للمال، وحب أهل الخيل للخيل، أرأيتم أهل الخيل كيف ينصبون في خدمتها بحب، ويكررون تلك الخدمة بابتهاج، ويعودون إليها في اليوم مرة ومرات، لأن النفس أحبت والخيل تعلقت بالشغاف! {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } [ص: 32]!
وقبل أن يغادرنا ابتهاج العيد انحنى نحونا ليهمس في آذاننا بلطف قائلا: إن التزيين والتحبيب لخصال الخير والجمال، لا يمكن أن يكون بالعنف والقسوة.. فالجمال لا يغرس إلا بجمال! والزين لا يزين إلا بالزين!
Comments